مما يُروى أن قروياً زار صديقاً له في بلدة مجاورة، وعندما دخل المجلس توافد عليه أبناء صديقه للسلام، والتعريف بأنفسهم، وأثناء تبادل الحديث وتداول فناجين الشاي والقهوة، كان ضيفهم يرصد ملامحهم وحركتهم وتصرفاتهم وكلامهم، ويبدو أنه لم يكوّن انطباعاً إيجابياً، إذ لم يلحظ عليهم ما تمناه من أخلاق وكرم ورجولة وفحالة أبيهم، وعندما تفاخر المضيف بإنجاب الأبناء السبعة من زوجة واحدة. قال الضيف: ليتك استرحت واكتفيت بواحد!.
أقرّ أحد المعارف واعترف لي بخطأ استراتيجي وقع وقرينته فيه، ويتمثل بالمبالغة في إنجاب الأبناء على أمل الفزعة في تحمّل الأعباء، علماً بأن معيشة الرجال على قد الحال. سألته: لماذا كل هذه الأعداد المستهلكة مالك وصحتك ومشاعرك؟، فأجاب بشفافية: تعرفني دماغي فاضي من شواغل الدنيا، وصحتي بفضل الله جيدة، وكل يوم مع صلاة المغرب وأنا في البيت نتقهوى ونتعشى ونأوي إلى عُشنا الدافئ، والزوجة ذكية وتعتمد تكتيك (ودود ولود). قلت: لكنك تعرف قدراتك، فأنت محدود الدخل، قال: صدقت ولكن هل تعلم أن الغنم عندي إذا حلّت أزمة شعير وعلف تنجب توأم وما تجيب إلا على اثنين اثنين وربك الرزاق. علّقت: والنعم بالله.
وفي مثل هذا الوقت من العام الماضي كنتُ أسمعُ وأستمتع بأصوات الطالبات والطلاب في المدارس التي أمر في جوارها، وبحكم أن بالقرب من منزلي مدرسة فإن سكون القُرى المحاطة بالصباحات الهادئة يمكّن من سماع صوت جرس تنبيه دخول الحصة، وأحياناً يصل ما يتبع الجرس من صوت يذكّرني بأصوات المنادين بأرقام ووجهات الرحلات في المطارات.
من الظواهر التي فرضتها آلية التعليم عن بُعد، (اقتحام التقنية منازل الجميع) وإن كانت أبوابها مُغلقة، وإذابتها الحد الفاصل بين الخارج والداخل، كما أنها فعّلت دور الأسرة الشراكي، فاستعاد البيت شيئاً من دوره الحيوي، وتعزز مفهوم التكامل في بناء شخصيات المتعلمين والمتعلمات، وأتاحت الجائحة للآباء والأمهات فرص ضبط وقت النوم والاستيقاظ وفق جداول أبنائهم وبناتهم والإسهام في العملية التعليمية والتربوية، بدءاً من إعانة النائم ومروراً بتنبيه الغافل، ومتابعة الكبير والصغير، وتعريف المعلمين والمعلمات بالظروف والحالات، وتوضيح ما ليس بواضح من إمكانات أو معاناة بنيهم وبناتهم.
قدّمت حقبة كورونا معطيات جديدة، تُلغي الاتكالية، وتُعلي شأن الاعتماد بعد الله على النفس، وتتجاوز التلقين، وتحجّم القص واللزق، وتحفّز الضمير والرقيب الذاتي، وتؤصل الثقة، وتزيل الحواجز الشكلية، ولن ننسى أنه مرت بنا أزمنة لا يعلم البعض عن صف ابنه أو بنته أو مرحلتهما الدراسية!.
ستدفعنا التقنية لتحكيم العقل وتبني الموضوعية وهي تنقل صوراً من العطاء النموذجي والأداء الإيجابي للمدرسين والمدرسات، وتلفت انتباه الأسر أو بعضها إلى معاناة المعلمين والمعلمات اليومية، ليقر أولياء الأمور بفضل المدارس على الأهل باحتوائهم الأبناء والبنات طيلة ست أو سبع ساعات بصفة يومية عدا الإجازات، وربما يوصي بعض الآباء والأمهات أولادهم مستقبلاً بتنظيم النسل وترشيد الإنجاب، تفادياً للربكة الناشئة عن تحول البيوت لمدارس رقمية، يعيش صخبها وتداعيات يومياتها ويتعايش معها منجبو عدد كبير من الأولاد.
يتمتع من رزقهم الله بطفل واحد بالهدوء، وتخصيص جل الوقت لمتابعة وحيدهم أثناء تلقي دروسه عبر التطبيق دون انفعال ولا صخب، ولا شعور بالإرهاق بين الفصول الافتراضية والعبرة بالطبع ليست بالكثرة بل بالنفع وبما قلّ ودلّ.
إسهام الآباء والأمهات والإخوة والأخوات في ورشات عمل وأمل في ظل تجربة متخمة بالدروس والعبر والتأمل يمرّن على المزيد من الاستجابة لتحولات (غير مألوفة) فرضت نفسها علينا، سواء رضينا أم أبينا، ولعل أبلغ درس يقرع جرس الوعي يتمثل في ربط المنجزات بضرورة التفاعل بين مكونات المجتمع، والإقرار دوماً بفضل المدرسة التي كنا نلقي عليها كل الأعباء ومعظم اللوم، ونحمّلها مهمة التربية والتعليم كاملة لنبرئ أنفسنا ونخلي مسؤوليتنا.
استشعارنا لضخامة وثقل المسؤولية يوجب الاضطلاع بأدوارنا، ولعل التنافس اليوم خرج عن إطاره الطلابي ليغدو تنافس عائلات تسهم وتستشعر لذة النجاح وثمرة التفوق، ويكفينا ما انقضى من سنوات تجاهلنا أو غمطنا فيها عطاء الأساتيذ والأستاذات في كافة المراحل والمستويات، حفظهم الله وأعانهم، وأفاخر بما تنجزه وزارة التعليم، مستشعراً جهود جامعة الباحة المميزة وتعليم منطقتنا الراقي.
كاتب سعودي
Al_ARobai@
أقرّ أحد المعارف واعترف لي بخطأ استراتيجي وقع وقرينته فيه، ويتمثل بالمبالغة في إنجاب الأبناء على أمل الفزعة في تحمّل الأعباء، علماً بأن معيشة الرجال على قد الحال. سألته: لماذا كل هذه الأعداد المستهلكة مالك وصحتك ومشاعرك؟، فأجاب بشفافية: تعرفني دماغي فاضي من شواغل الدنيا، وصحتي بفضل الله جيدة، وكل يوم مع صلاة المغرب وأنا في البيت نتقهوى ونتعشى ونأوي إلى عُشنا الدافئ، والزوجة ذكية وتعتمد تكتيك (ودود ولود). قلت: لكنك تعرف قدراتك، فأنت محدود الدخل، قال: صدقت ولكن هل تعلم أن الغنم عندي إذا حلّت أزمة شعير وعلف تنجب توأم وما تجيب إلا على اثنين اثنين وربك الرزاق. علّقت: والنعم بالله.
وفي مثل هذا الوقت من العام الماضي كنتُ أسمعُ وأستمتع بأصوات الطالبات والطلاب في المدارس التي أمر في جوارها، وبحكم أن بالقرب من منزلي مدرسة فإن سكون القُرى المحاطة بالصباحات الهادئة يمكّن من سماع صوت جرس تنبيه دخول الحصة، وأحياناً يصل ما يتبع الجرس من صوت يذكّرني بأصوات المنادين بأرقام ووجهات الرحلات في المطارات.
من الظواهر التي فرضتها آلية التعليم عن بُعد، (اقتحام التقنية منازل الجميع) وإن كانت أبوابها مُغلقة، وإذابتها الحد الفاصل بين الخارج والداخل، كما أنها فعّلت دور الأسرة الشراكي، فاستعاد البيت شيئاً من دوره الحيوي، وتعزز مفهوم التكامل في بناء شخصيات المتعلمين والمتعلمات، وأتاحت الجائحة للآباء والأمهات فرص ضبط وقت النوم والاستيقاظ وفق جداول أبنائهم وبناتهم والإسهام في العملية التعليمية والتربوية، بدءاً من إعانة النائم ومروراً بتنبيه الغافل، ومتابعة الكبير والصغير، وتعريف المعلمين والمعلمات بالظروف والحالات، وتوضيح ما ليس بواضح من إمكانات أو معاناة بنيهم وبناتهم.
قدّمت حقبة كورونا معطيات جديدة، تُلغي الاتكالية، وتُعلي شأن الاعتماد بعد الله على النفس، وتتجاوز التلقين، وتحجّم القص واللزق، وتحفّز الضمير والرقيب الذاتي، وتؤصل الثقة، وتزيل الحواجز الشكلية، ولن ننسى أنه مرت بنا أزمنة لا يعلم البعض عن صف ابنه أو بنته أو مرحلتهما الدراسية!.
ستدفعنا التقنية لتحكيم العقل وتبني الموضوعية وهي تنقل صوراً من العطاء النموذجي والأداء الإيجابي للمدرسين والمدرسات، وتلفت انتباه الأسر أو بعضها إلى معاناة المعلمين والمعلمات اليومية، ليقر أولياء الأمور بفضل المدارس على الأهل باحتوائهم الأبناء والبنات طيلة ست أو سبع ساعات بصفة يومية عدا الإجازات، وربما يوصي بعض الآباء والأمهات أولادهم مستقبلاً بتنظيم النسل وترشيد الإنجاب، تفادياً للربكة الناشئة عن تحول البيوت لمدارس رقمية، يعيش صخبها وتداعيات يومياتها ويتعايش معها منجبو عدد كبير من الأولاد.
يتمتع من رزقهم الله بطفل واحد بالهدوء، وتخصيص جل الوقت لمتابعة وحيدهم أثناء تلقي دروسه عبر التطبيق دون انفعال ولا صخب، ولا شعور بالإرهاق بين الفصول الافتراضية والعبرة بالطبع ليست بالكثرة بل بالنفع وبما قلّ ودلّ.
إسهام الآباء والأمهات والإخوة والأخوات في ورشات عمل وأمل في ظل تجربة متخمة بالدروس والعبر والتأمل يمرّن على المزيد من الاستجابة لتحولات (غير مألوفة) فرضت نفسها علينا، سواء رضينا أم أبينا، ولعل أبلغ درس يقرع جرس الوعي يتمثل في ربط المنجزات بضرورة التفاعل بين مكونات المجتمع، والإقرار دوماً بفضل المدرسة التي كنا نلقي عليها كل الأعباء ومعظم اللوم، ونحمّلها مهمة التربية والتعليم كاملة لنبرئ أنفسنا ونخلي مسؤوليتنا.
استشعارنا لضخامة وثقل المسؤولية يوجب الاضطلاع بأدوارنا، ولعل التنافس اليوم خرج عن إطاره الطلابي ليغدو تنافس عائلات تسهم وتستشعر لذة النجاح وثمرة التفوق، ويكفينا ما انقضى من سنوات تجاهلنا أو غمطنا فيها عطاء الأساتيذ والأستاذات في كافة المراحل والمستويات، حفظهم الله وأعانهم، وأفاخر بما تنجزه وزارة التعليم، مستشعراً جهود جامعة الباحة المميزة وتعليم منطقتنا الراقي.
كاتب سعودي
Al_ARobai@