لو كُنا من ذوي الإنتاج المنهمكين في عمل بالمصنع أو المزرعة أو المتجر من السابعة صباحاً حتى السابعة مساءً، فربما لا نجد الوقت لكل هذا الترف الجدلي عبر منصات صنعها غيرنا لغايات تنفعه، ونحن حوّلناها لساحات حرب وصراع استهلاكي بالكتابة.
لا أظن أحد يخفى عليه مسمى (الحراج) تلك المساحة المتاحة لفئة من البشر للاسترزاق الحلال والدِلالة والبيع بالمزاد، اشتهرت في بلادنا منها حراجات (بن قاسم)، و (الصواريخ) و (السيارات) و(الملح)، و(البطيخ ) والصابون اللي يتزحلق فيه البعض ويقع دون أن يسمّي عليه أحد.
جاء في الحديث عن أخلاق النبي عليه السلام (لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخّاباً في الأسواق)، ومن عادة أمي شفاها الله إذا تعالى حولها صخب أن تقول (هجّدوا غلبة الورعان غدا بيتنا كما الحراج).
لا تقل في الحراج (أصه) أو اسكتوا، ومن يقولها مشكوك في قدراته العقلية. فالصخب والتحريج بصوت عالٍ لازمة تسويقية للمحرجين والمحرجّات، الماهرين والماهرات، بتمطيط العبارات، وترطيب الكلمات لإغراء المزايدين والمزايدات برفع سعر الرخيص، وإرخاص الغالي، والظفر بشيء من غنيمة الدُلالة على حساب مشترٍ فاضل أو فضولي.
أحمدُ الله أن الصخب في (حراج التواصل الإلكتروني) مرئي، غير مسموع، وإلا لاختار بعضنا أن يلوذ بالصحراء الجرداء بلا هاتف ولا كهرباء ليحمي نفسه من التلوث السمعي والبصري والأنفي، ويتفادى الظاهرة الفلاشية التي اكتسحت الكون، وضببت الرؤية، فاشتبهت علينا وجوه من غابوا بمن حضروا.
العالم الافتراضي فرضه الغزو الناعم عبر فضاء مفتوح أتاح لكل من يفك الحرف أن يُدلي بدلوه في كل شأن، دون تواضع معرفي، ولا حفظ حقوق سابقة، ولا اعتبار بإمام قوم هو أقرأ أو أسبق هجرة، فالصورة التعبيرية للناشر والناشرة ترفع أسهم المنشور، والنشر في حراج التسليع أغرى من الطي.
يثير الإقبال على حراج التواصل أسئلة، وتحفّز الجرأة على عرض الخصوصيات، وكشف المستور، والمجاهرة بما يستحي منه الفضلاء، علامات استفهام، وتحيط الشبهة بمن لديهم جسارة خوض عُباب الشهرة بمركب متهالك، وزاد قليل، وبضاعة مزجاة، وتبني شعار «ما نقص من جودة الماركة، تكمله الابتسامة المباركة»، وقديماً يقول المثل عندنا (اللي معه سوق وعقبة، فسُلْطته على كل رقبة).
حراج التقنية الافتراضي سهل وساحر لا يكلف مشقة ركوب سيارة ولا قطع طويل طريق للوصول إليه فهو يأتي إليك بلمسة على صدر الميديا الحاني، ليشرع لك الأبواب مردداً «هئت لك» لتَعْرِض وتقتني ما شئت من بضائع حقيقية، وسلع وهمية، وتقضي ساعات بين متاجرين بالمنتجات والمنشطات والقضايا والمبادئ والكلام والشعارات.
تعارفت الحراجات واشتهرت بتدافع الخلق طلباً للرزق أو تضييع الوقت بالفُرجة، أو تكحيل العين، وكذلك الحال في حراج الفيس ومجلبة تويتر، فالشاشة عامرة بعرض وطلب، والشهية مفتوحة على ما لذ وما لم يلذ، والمالح والسامج، في ظل افتتان بفن العرض والاستعراض بمغريات الحراج العامر والغامر بالمفاتن والمهازل والمثير والمشوق والمستفز.
ولا يخلو الحراج من طيبين شرواكم وعقلاء وذوي وقار يستحي بعضهم فيدخل الحراج والمجلبة متلثّما ويخرج متلطّما، تفادياً للإحراج والزحام ورائحة بعض الأنام، إلا أن تنظيم الحراج يفقده هويته، والمحراش قائم واللي ما وده يلحقه ملام وإلا طرطشة وإلا خربشة يلوذ ببلكونة ويطل منها على المحرجين ويتفرج من المدرّج.
واللي ما له وجه بشوش وما معه بقشيش ما له في السوق مَسْوَق، وحُسْن السوق ولا حسن البضاعة، وحراج واحد حراج اثنين حراج أغراب، حراج أحباب والمقتدر يدفع الأتعاب، وابن حلال يفتح الباب، ويرفع المحرّج الصوت مستعرضاً مزايا المعروض برغم أنف المعترض، تنفتح نافذة المزايدة، وتستعر حمى المنافسة، ومع كل غمزة أو لمزة يردد المحرّج ( يُسام بأزود) (عدّاك السوم) (وطلّع المخبأ في جيبك المعبأ)، (أقول يكسب، أقول يربح الله يبارك لك).
لا يتيح الحراج لكائن من كان أن يحجر على جلاب يريد عرض جلبته، وفي مجلبة تويتر الباب مفتوح على مصراعيه، وكما أن النبي عليه السلام نهى عن تلقي الركبان، فليس من اللياقة أن تنفرد بمجلوبة وجلاب على الخاص لتملي عليه أو تغريه أو تستدعيه لبسطتك، خصوصاً مع المتبضعات بنوعيهن (المُخدّرات، والبرزات)، ومدورات شرح الصدر، وتسهيل الأمر.
ومثل ما تأكل مقلب في الحراج الأرضي، تأكل مقالب في الحراج الفضائي والافتراضي. تطمح للعسل فيطلع بصل، وتقتني عنزاً على أنها حلوب ولما تتفقدها وتقفرها تجدها تيساً مضروباً، وتسامر زولاً تهواه وتكتب له أشعاراً طول الليل وفي الصباح يظهر محتالاً مبتزاً ويساومك فتسلم له دقنك وأنت ما تشوف الطريق، وتردد مع الشاعر:
(لا ضاق صدري في توالي الليالي، أسيح بتويتر واعرّج على الفيس، أحظى بمعشوقة تفوق الخيالي، كأنها ليلى وانا المُبتلى قيس، ولحقت واحد في سنينٍ خوالي، قضّى طويل الليل يرصد قرانيس، ويوم أصبحت لانه بوادي حلالي، والزول ذا سهّر جفونه طلع تيس).
كاتب سعودي
Al_ARobai@
لا أظن أحد يخفى عليه مسمى (الحراج) تلك المساحة المتاحة لفئة من البشر للاسترزاق الحلال والدِلالة والبيع بالمزاد، اشتهرت في بلادنا منها حراجات (بن قاسم)، و (الصواريخ) و (السيارات) و(الملح)، و(البطيخ ) والصابون اللي يتزحلق فيه البعض ويقع دون أن يسمّي عليه أحد.
جاء في الحديث عن أخلاق النبي عليه السلام (لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخّاباً في الأسواق)، ومن عادة أمي شفاها الله إذا تعالى حولها صخب أن تقول (هجّدوا غلبة الورعان غدا بيتنا كما الحراج).
لا تقل في الحراج (أصه) أو اسكتوا، ومن يقولها مشكوك في قدراته العقلية. فالصخب والتحريج بصوت عالٍ لازمة تسويقية للمحرجين والمحرجّات، الماهرين والماهرات، بتمطيط العبارات، وترطيب الكلمات لإغراء المزايدين والمزايدات برفع سعر الرخيص، وإرخاص الغالي، والظفر بشيء من غنيمة الدُلالة على حساب مشترٍ فاضل أو فضولي.
أحمدُ الله أن الصخب في (حراج التواصل الإلكتروني) مرئي، غير مسموع، وإلا لاختار بعضنا أن يلوذ بالصحراء الجرداء بلا هاتف ولا كهرباء ليحمي نفسه من التلوث السمعي والبصري والأنفي، ويتفادى الظاهرة الفلاشية التي اكتسحت الكون، وضببت الرؤية، فاشتبهت علينا وجوه من غابوا بمن حضروا.
العالم الافتراضي فرضه الغزو الناعم عبر فضاء مفتوح أتاح لكل من يفك الحرف أن يُدلي بدلوه في كل شأن، دون تواضع معرفي، ولا حفظ حقوق سابقة، ولا اعتبار بإمام قوم هو أقرأ أو أسبق هجرة، فالصورة التعبيرية للناشر والناشرة ترفع أسهم المنشور، والنشر في حراج التسليع أغرى من الطي.
يثير الإقبال على حراج التواصل أسئلة، وتحفّز الجرأة على عرض الخصوصيات، وكشف المستور، والمجاهرة بما يستحي منه الفضلاء، علامات استفهام، وتحيط الشبهة بمن لديهم جسارة خوض عُباب الشهرة بمركب متهالك، وزاد قليل، وبضاعة مزجاة، وتبني شعار «ما نقص من جودة الماركة، تكمله الابتسامة المباركة»، وقديماً يقول المثل عندنا (اللي معه سوق وعقبة، فسُلْطته على كل رقبة).
حراج التقنية الافتراضي سهل وساحر لا يكلف مشقة ركوب سيارة ولا قطع طويل طريق للوصول إليه فهو يأتي إليك بلمسة على صدر الميديا الحاني، ليشرع لك الأبواب مردداً «هئت لك» لتَعْرِض وتقتني ما شئت من بضائع حقيقية، وسلع وهمية، وتقضي ساعات بين متاجرين بالمنتجات والمنشطات والقضايا والمبادئ والكلام والشعارات.
تعارفت الحراجات واشتهرت بتدافع الخلق طلباً للرزق أو تضييع الوقت بالفُرجة، أو تكحيل العين، وكذلك الحال في حراج الفيس ومجلبة تويتر، فالشاشة عامرة بعرض وطلب، والشهية مفتوحة على ما لذ وما لم يلذ، والمالح والسامج، في ظل افتتان بفن العرض والاستعراض بمغريات الحراج العامر والغامر بالمفاتن والمهازل والمثير والمشوق والمستفز.
ولا يخلو الحراج من طيبين شرواكم وعقلاء وذوي وقار يستحي بعضهم فيدخل الحراج والمجلبة متلثّما ويخرج متلطّما، تفادياً للإحراج والزحام ورائحة بعض الأنام، إلا أن تنظيم الحراج يفقده هويته، والمحراش قائم واللي ما وده يلحقه ملام وإلا طرطشة وإلا خربشة يلوذ ببلكونة ويطل منها على المحرجين ويتفرج من المدرّج.
واللي ما له وجه بشوش وما معه بقشيش ما له في السوق مَسْوَق، وحُسْن السوق ولا حسن البضاعة، وحراج واحد حراج اثنين حراج أغراب، حراج أحباب والمقتدر يدفع الأتعاب، وابن حلال يفتح الباب، ويرفع المحرّج الصوت مستعرضاً مزايا المعروض برغم أنف المعترض، تنفتح نافذة المزايدة، وتستعر حمى المنافسة، ومع كل غمزة أو لمزة يردد المحرّج ( يُسام بأزود) (عدّاك السوم) (وطلّع المخبأ في جيبك المعبأ)، (أقول يكسب، أقول يربح الله يبارك لك).
لا يتيح الحراج لكائن من كان أن يحجر على جلاب يريد عرض جلبته، وفي مجلبة تويتر الباب مفتوح على مصراعيه، وكما أن النبي عليه السلام نهى عن تلقي الركبان، فليس من اللياقة أن تنفرد بمجلوبة وجلاب على الخاص لتملي عليه أو تغريه أو تستدعيه لبسطتك، خصوصاً مع المتبضعات بنوعيهن (المُخدّرات، والبرزات)، ومدورات شرح الصدر، وتسهيل الأمر.
ومثل ما تأكل مقلب في الحراج الأرضي، تأكل مقالب في الحراج الفضائي والافتراضي. تطمح للعسل فيطلع بصل، وتقتني عنزاً على أنها حلوب ولما تتفقدها وتقفرها تجدها تيساً مضروباً، وتسامر زولاً تهواه وتكتب له أشعاراً طول الليل وفي الصباح يظهر محتالاً مبتزاً ويساومك فتسلم له دقنك وأنت ما تشوف الطريق، وتردد مع الشاعر:
(لا ضاق صدري في توالي الليالي، أسيح بتويتر واعرّج على الفيس، أحظى بمعشوقة تفوق الخيالي، كأنها ليلى وانا المُبتلى قيس، ولحقت واحد في سنينٍ خوالي، قضّى طويل الليل يرصد قرانيس، ويوم أصبحت لانه بوادي حلالي، والزول ذا سهّر جفونه طلع تيس).
كاتب سعودي
Al_ARobai@