تُشرّع ذاكرتي أبواب الحنين إلى صفوى، تلك المدينة اللطيفة التي تنتمي إلى محافظة القطيف والتي زرتها للمرة الأولى قادمة من أبها قبل نحو 19 عاماً وأنا طفلة في السادس ابتدائي، وعاودت زيارتها مرة أخرى وأنا في الثاني متوسط لأعيش بها لأشهر وأدرس هناك فصلا دراسيا واحدا، لتتاح لي فرصة العيش في بقعة فاتنة أخرى من وطني، في مجتمع يسكنه أناس طيبون.
بخطوات مرتعشة ذهبت للمرة الأولى إلى مدرستي في صفوى، أخذتني الوكيلة إلى الفصل الذي سأدرس به، كان فارغا، لتأخذني إلى مختبر العلوم، الذي كانت تتواجد به الطالبات والمعلمة، دخلت بخجل لتعرفني المشرفة عليهن وتخبرهن بأني طالبة جديدة، رحبن بي، وسألتني المعلمة من أين أنتِ، لأجيبها، ثم بادرتني بسؤال لم جئتِ من أبها إلى هنا؟ لتتدخل فورا فتاة شيعية شقية تدعى «أزهار»، وتخبر المعلمة بأنه لا ينبغي عليها أن تسألني ذلك السؤال وألا تحرجني لأنه ربما لدي ظروف لا أود الحديث عنها، لتصمت المعلمة وأصمت أنا وأبدأ معهن أول حصة دراسية.
لم يكن فصلنا مجرد فصل دراسي فحسب؛ بل كان نموذجا صغيرا للتعايش والتسامح والمحبة وقبول الآخر في هذا الوطن الشاسع، فهناك فتيات من المذهب الشيعي وأخريات من المذهب السني وفتاة من الجنسية السورية وفتيات من ذوات البشرة السمراء، لم تعرف الطائفية والعنصرية والكراهية طريقا إلى فصلنا الصغير وإلى قلوبنا، حيث نقضي يومنا الدراسي في وئام، نتبادل الأحاديث، ونصنع الفرح ما أمكننا ذلك.
غادرت صفوى منذ زمن بعيد وبقيت هي في داخلي بذكرياتها وتفاصيلها الجميلة؛ التفاف فتيات الفصل حولي في أولى أيامي بالمدرسة وأحاديثهن معي، إعجابنا المشترك أنا و«أزهار» بأغنية ديانا حداد «أدلع عليك»، معلمة اللغة العربية التي كانت تزين مسامعنا بالتحدث بالفصحى، «زينب» التي تجاورني في الفصل، عودتي من المدرسة إلى البيت مشيا ومشاهدة الأقمشة السوداء على الحيطان وبين البيوت أثناء مراسم العزاء التي يقيمها أهلنا الشيعة في ذكرى مقتل الحسين بن علي حفيد رسول الله في معركة كربلاء، سعادتي أنا وأشقائي بمشاهدة الممثل السعودي علي السبع في أحد كورنيشات القطيف، «أبو ريالين» الذي كنا نستقله للذهاب إلى السوق، مكتبة «الفتاة الذكية»، سوق السبت، اللهجة الصفوانية، أسماء العائلات، وأسماء الفتيات اللافتة بمدرستي كـ«فاطمة الزهراء» و«سكينة» و«حوراء».
كنت فتاة صغيرة وصامتة كثيرا أثناء عيشي هناك، لم أقل حينها كل ما كان ينبغي علي قوله لرفيقاتي بالمدرسة ومعلماتي، ولصفوى التي احتضنتني كما لو كنت إحدى بناتها، لم أخبر صفوى قبل الرحيل عنها بأني أتباهى بها كثيرا كمدينة سعودية تحتضن الجميع بمختلف أطيافهم على أرضها ليعيشوا فيها آمنين، لم أخبر كل فتاة بفصلي بأني أحبها بكل اختلافها بالمذهب والمعتقدات واللون...، لم أخبر معلماتي بأنهن كن لطيفات وفاضلات ومواطنات صالحات بحق؛ لأنهن لم يفرقن في المعاملة بيننا، ولم تفضل إحداهن فتاة من المذهب الذي تنتمي هي له على فتاة من مذهب آخر.
لا فرق بين ريحان أبها ومشموم صفوى، كلاهما نبتة واحدة رغم اختلاف اسميهما، وكذلك نحن في هذا الوطن، إذ لا فرق بين مواطن سني وآخر شيعي، فجميعنا أبناء هذه الأرض التي وحدها الملك عبدالعزيز منذ 90 عاماً على مبدأ الوئام والتسامح والاعتدال، واستشهد دفاعا عنها في 2016 البطلان صادق العواد الذي ينتمي للمذهب الشيعي وعبدالرزاق الملحم الذي ينتمي للمذهب السني، ليكون استشهادهما أعظم برهان على وحدتنا لتظل السعودية شامخة ولتكون للأبد بيتنا الواحد الذي يملأه الحب والسكينة والأمان.
كاتبة سعودية
reemeta22@
بخطوات مرتعشة ذهبت للمرة الأولى إلى مدرستي في صفوى، أخذتني الوكيلة إلى الفصل الذي سأدرس به، كان فارغا، لتأخذني إلى مختبر العلوم، الذي كانت تتواجد به الطالبات والمعلمة، دخلت بخجل لتعرفني المشرفة عليهن وتخبرهن بأني طالبة جديدة، رحبن بي، وسألتني المعلمة من أين أنتِ، لأجيبها، ثم بادرتني بسؤال لم جئتِ من أبها إلى هنا؟ لتتدخل فورا فتاة شيعية شقية تدعى «أزهار»، وتخبر المعلمة بأنه لا ينبغي عليها أن تسألني ذلك السؤال وألا تحرجني لأنه ربما لدي ظروف لا أود الحديث عنها، لتصمت المعلمة وأصمت أنا وأبدأ معهن أول حصة دراسية.
لم يكن فصلنا مجرد فصل دراسي فحسب؛ بل كان نموذجا صغيرا للتعايش والتسامح والمحبة وقبول الآخر في هذا الوطن الشاسع، فهناك فتيات من المذهب الشيعي وأخريات من المذهب السني وفتاة من الجنسية السورية وفتيات من ذوات البشرة السمراء، لم تعرف الطائفية والعنصرية والكراهية طريقا إلى فصلنا الصغير وإلى قلوبنا، حيث نقضي يومنا الدراسي في وئام، نتبادل الأحاديث، ونصنع الفرح ما أمكننا ذلك.
غادرت صفوى منذ زمن بعيد وبقيت هي في داخلي بذكرياتها وتفاصيلها الجميلة؛ التفاف فتيات الفصل حولي في أولى أيامي بالمدرسة وأحاديثهن معي، إعجابنا المشترك أنا و«أزهار» بأغنية ديانا حداد «أدلع عليك»، معلمة اللغة العربية التي كانت تزين مسامعنا بالتحدث بالفصحى، «زينب» التي تجاورني في الفصل، عودتي من المدرسة إلى البيت مشيا ومشاهدة الأقمشة السوداء على الحيطان وبين البيوت أثناء مراسم العزاء التي يقيمها أهلنا الشيعة في ذكرى مقتل الحسين بن علي حفيد رسول الله في معركة كربلاء، سعادتي أنا وأشقائي بمشاهدة الممثل السعودي علي السبع في أحد كورنيشات القطيف، «أبو ريالين» الذي كنا نستقله للذهاب إلى السوق، مكتبة «الفتاة الذكية»، سوق السبت، اللهجة الصفوانية، أسماء العائلات، وأسماء الفتيات اللافتة بمدرستي كـ«فاطمة الزهراء» و«سكينة» و«حوراء».
كنت فتاة صغيرة وصامتة كثيرا أثناء عيشي هناك، لم أقل حينها كل ما كان ينبغي علي قوله لرفيقاتي بالمدرسة ومعلماتي، ولصفوى التي احتضنتني كما لو كنت إحدى بناتها، لم أخبر صفوى قبل الرحيل عنها بأني أتباهى بها كثيرا كمدينة سعودية تحتضن الجميع بمختلف أطيافهم على أرضها ليعيشوا فيها آمنين، لم أخبر كل فتاة بفصلي بأني أحبها بكل اختلافها بالمذهب والمعتقدات واللون...، لم أخبر معلماتي بأنهن كن لطيفات وفاضلات ومواطنات صالحات بحق؛ لأنهن لم يفرقن في المعاملة بيننا، ولم تفضل إحداهن فتاة من المذهب الذي تنتمي هي له على فتاة من مذهب آخر.
لا فرق بين ريحان أبها ومشموم صفوى، كلاهما نبتة واحدة رغم اختلاف اسميهما، وكذلك نحن في هذا الوطن، إذ لا فرق بين مواطن سني وآخر شيعي، فجميعنا أبناء هذه الأرض التي وحدها الملك عبدالعزيز منذ 90 عاماً على مبدأ الوئام والتسامح والاعتدال، واستشهد دفاعا عنها في 2016 البطلان صادق العواد الذي ينتمي للمذهب الشيعي وعبدالرزاق الملحم الذي ينتمي للمذهب السني، ليكون استشهادهما أعظم برهان على وحدتنا لتظل السعودية شامخة ولتكون للأبد بيتنا الواحد الذي يملأه الحب والسكينة والأمان.
كاتبة سعودية
reemeta22@