تحاصرني ذكرياتي اليوم، وأنا في طريقي إلى (مستشفي الملك فيصل التخصصي) آخر الحصون الطبية العملاقة في المنطقة الغربية، أصرخ كفى (يا فؤاد) كفى جلداً لتلك الذات التي لم تكن صنعتها، الذات الموروثة، الذات اللا واعية، والتي كانت متروكة لصدف الحياة، تعرضت لخطر الموت ثلاث مرات في حياتي؛ الأولى كدت أختنق عندما علقت قطعة معدنية في حلقي وكنت طفلاً الهو بها في غفلة من أهلي، والثانية عندما كدت أن أغرق في بئر في (المسفلة) والثالثة عندما ابتلعت فيها حبات من الفاليوم الملونة، ظنا مني أنها حلوى، وهذه الرابعة، وأرجو أن لا تكون ثابتة، حيث أختار هذا المرض اللعين الذي هو عهر العلم الذي لا يزال يبحث عن هوية، هذا الوقت ليكمش على صدري، بعد أن أغراه الشيب الذي غزا رأسي، والتجاعيد في زوايا عيني، أشياء كثيرة أتأملها في الطريق إلى المستشفى كأنني أراها لأول مرة، أدون الآهة والحسرة.. وأتساءل، لماذا الكون لم يعد جميلاً كما رسمه لنا مدرس التربية الفنية في المدرسة الابتدائية، يجول كل ذلك في رأسي، أحاول أن ألوذ بعيدا عن ذلك بما يطمنني في زمنٍ كل ما فيه لا يطمئن، أبتهل إلى الله، أتوسل إليه بكل الرسل والأنبياء، أتمتم بأدعية حفظتها عن والدتي، وبقيت أرددها كلما واجهت مجهولا وشعرت أمامه بعجزي، يتأرجح الأمل داخل صدري، داخل كل عضو في جسدي، أتطلع إلى المرآة في العربة، أتامل وجهي، أشعر بوطأة العمر، أقوى عليّ اليوم من أي وقتٍ مضى، أبحث عن هذا الذي كنته، كأنني وأنا أقترب من المستشفى أود أن أشعل الحياة من جديد، الحياة تجري ونحن نحسب أننا هنا نركب أمواجها ونعلو هكذا فوقها، ثم فجأة نشعر بالغرق وقد غمرتنا مياهها من كل مكان، وراحت تجري بعيدا عنا، تقول المطربة اللبنانية (أليسا) في أحد مقابلتها تصف ما مرت به من ألم، (يخرب بيت الوجع)، وأنا أقول فعلاً يخرب بيت الوجع ويعمر بيت كل عامل في (مستشفى الملك فيصل التخصصي) يرفع أثقال الوجع عن أكتاف المرضى والمصابين، غيمة بوسع السماء تملأ الفضاء فوق رأسي، ألوذ بصمتي فيمتلئ صدري بكلام لا أجد سبيلاً لصرفه، أهرب من همي، أحاول أن أستعيد زمناً أركض فية أكثر، أترك لنفسي حرية التفكير، أتبع أمواجاً تقودني إلى تيار يسحبني بهدوء إلى الأعماق ويبقى لي الأمل بعدم الغرق وبإمكانية الوصول إلى الشاطئ، الشاطئ الآخر حيث نقف ولا نستطيع أن نرى أبعد، عندما وصلت إلى الشارع العريض المؤدي إلى بوابة المستشفى، أحسست بوحدة عجيبة وبغضب عميق، ظهرت عندي رغبة في تناول حصاة لأصوبها نحو تلك الغيمة المارقة التي لا تبتعد ولا تمطر، تذكرت أنني تجاوزت الستين بقليل فعدلت عن ذلك، أكتفيت بضرب قوارير بلاستيكية فارغة ملقاة في الطريق بحذائي الرياضي، كانت فكرة البقاء في المستشفى كمريض تمزقني، تخيلت أنني في عزلة من ذهب، لأول مرة أفاضل بين الحرية والحياة بهذا الشكل، كنت أتمدد على السرير وأفكر جدياً في أمور لم تخطر لي من قبل، تخيلت كم سيكون الأمر قاسياً ورهيباً لو لم يكن لدي كل هذا الكم من الإيمان بالله، وأن هناك حياة أخرى بعد الموت، المرض أحياناً يضعك في عزلة قهرية تمنحك رؤية جديدة تتعدي التفكير بما تقدمه في حياتك وما تؤخره، فرصة لمراجعة شاملة تفتح عينيك هناك فوق السرير على حقائق بديهية، هل كان يجب أن أدخل المستشفى لأكتشف ما اكتشفت، لم تكن الشمس قد أشرقت في اليوم التالي بعد، عندما امتدت كف جندية من عسل موقظة أياي، فركت عيني بظاهر كفي ورسمت ابتسامة كبيرة، دهشت صاحبة الكف التي كانت واقفة فوق رأسي، فركت جبينها قبل أن تسحبني في (الاصص الحياتي) السرير.. كان الانكسار هاجساً يحتلني، أصعب الأوقات أن تكون قدمك على حصاة والأخرى على فوهة مدفع وأن تصبح عاجزاً عن لمس أعضائك المتناثرة، سأخرج بإذن الله سليما من الأذى، سأخرج لمواجهة حياة لا تكف عن شد أطرافنا، أنبش التراب من جديد وأسرح بين البشر، وأنادي.. أول العتمة نور.. وآخر العتمة نور.. تمتد العتمة من نور إلى نور.. في موكب يحركه الخالق.. وأنظر للسماء علها تمنحني القوة من جديد لأجتاح شارعاً لا نهاية له.. أحمل الرماد على كتفي وأسير..!!
كاتب سعودي
Fouad5azab@gmail.com
كاتب سعودي
Fouad5azab@gmail.com