يُروى عن إحدى القرويات الوَرِعات، المحافظات على فروض دينهن، أن يدها كانت طويلة، تطيش وتزهق وتلقط بيض شُبّان من سفول وأحواش جيران، وقلّما يمر يوم دون أن تؤمّن بيضتين، لتلقم بها يتيمها الشره الذي لا يشبع ولا يروى كما تصفه، ولشدة ورعها حين يمد أحد الرجال يده لمصافحتها، تلف كفها بطرف شرشفها الأبيض ثم تصافح مرددة (على وضوء).
في عِزّ المد الصحوي كذب أحد المتحمسين للصحوة، والمتعاطفين معها، في مناسبة، وأقسم أيماناً مغلظة أنه صادق، وهو كاذب ويعلم أنه كاذب. عاتبناه فور انتهاء الفعالية وسألناه (ليش تحلف يميناً غموساً، ونحن نعرف أنك (البعيد عنا وعنكم كذّاب)؟ أجاب بكل بساطة؛ الله يغفر ويمهل، ولكن المسؤول الذي كان حاضراً لا يسامح ولن يغفر لي ولا يمهلني.
الإسلام رسالة أخلاقية مُثلى، وحديث (إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق) يؤكد أن الخُلق الكريم فطرة. شأن الخُلق اللئيم. فالإنسان له أخلاق. والعربي كذلك. والمسلم الأصل فيه أن يكون متخلّقاً بأحسنها لأن الدِّين جعل الأخلاق عبادة، ويبلغ المرء بحسن خلقه ما لا يبلغه بعبادته.
سمعنا أكثر من قصة يرفض فيها إنسان بسيط مكافأته على أخلاقه ويرى المكافأة على الأمانة مثلاً عيباً، ويغضب خلوقٌ حين نقول له شكراً على الصدق والإحسان وعدم أذية الخلق غضب جندي أو حارس مؤتمن على كيان وحدود وطن.
شكّلت الصحوة وعياً مزدوجاً لشخصيات غير سويّة بأصلها، بعضها معتل وبعضها مختل. يبكي أمام الملأ وفي خلواته لا يتورع عن استحلال ما حرم الله بأدنى الحِيل. ويبقى هؤلاء قِلة، مقابل الذين يعرفون الله قبل الصحوة وبعدها ويخشونه في الغيب والشهادة أكثر وأكبر من أن تضرب الصحوة بهم ولهم الأمثال.
تتمثل إشكالية بعض المسلمين في أنه لا يلتزم من الأخلاق إلا بما تترتب عليه منفعة له، وكم يبالغ البعض في إظهار التمسك بفضيلة في محيط ما، وسرعان ما يتخلى عنها في محيط ثان، بحكم أن عنايته بأخلاق الإسلام نسبية ومرنة، وتتفصل بمقاسه، بحسب موقعه ومركزه وما يستدعيه الموقف الذي هو فيه، والذمة واسعة والقفا حمّال.
التوجيه الرباني للأخلاق ترغيبي وترهيبي وفق الإيمان (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) بينما مواد ولوائح وتعليمات القانون إلزامية وآنية، ومن يخالف يتحاسب فوراً ويغرّم، وهذا معنى لتسامي الدين الرباني عن كونه سُلطة دنيوية، ومن أدلة ذلك أنه لا معنى لإيمان المُكره. بينما سلطة القانون مُلزمة أحبّ أو كَره. فالمواطنة (حقوق وواجبات).
يتسامح البعض في أخلاق الدين كون تطبيقها اختيارياً، وانتقائياً، يأخذ ما ينسجم معه، ليوظّفه لمصلحته، كالعدل باعتباره قيمة أخلاقية عُليا، إلا أنه مع الأسف أكثر من يدندن حول العدل ويتشدق بأهميته ظَلَمة. يريدون العدل المحقق مكاسب لهم، ولا يريدون العدل الذي يقتص منهم! لأنه تعوّد في حق الله أن يذنب فيستغفر فيتوب الله عليه ويغفر، ويكرر الذنب ويتفضل المنان بديمومة العفو ولا يمل ربنا حتى يملوا.
لا يصلح أن تكون أخلاق النظام والقانون مطاطية. ولو يتبع الحق أهواءهم لفسدت الأرض، بل ضرورة أن تكون صارمة وحازمة وغير متسمة بسمات العلاقة مع الله، فكل مخالفة نظامية موجبة للمحاسبة، وكل جناية تحتم العقوبة إما لحق الدولة العام وإما للحق الخاص للمواطن والمقيم.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه الوحي المحمدي (إنما توضع القوانين للحكومات المنظمة، ذات السلطان والقوة، التي تكفل تنفيذها)، ويضيف (على أن الوحي جاء بأعدل الأصول التي تبني عليها أمة قوانينها، عند تكوين دولتها في الأحوال الملائمة لها، وإنما جاء الوحي لإصلاح الأخلاق والطباع بالحجة القيّمة وطرق الإقناع، والخضوع لوازع الاعتقاد النفسي، دون وازع الحكم القهري، ليغير الناس ما بأنفسهم بالاختيار لا بالقوة والإجبار).
انقدح في ذهني سؤال (هل تصلح أخلاق الناس بالوعظ والإرشاد أم بالقانون والأنظمة الصارمة؟) بالطبع سيجيب مجيب بقوله؛ لا مناص من التذكير و( الحياء طيب) وهذا صحيح، إلا أن الحياء من الله أجمل وأكمل من الحياء من الناس فقط، وربما يرد المستوعب سؤالي بأن (المجاهرة بالمعصية شؤم) والسكوت عنها أشأم، وهذا حق، وربما يجيب ثالث بأن نفسيات البشر وفطرهم ليست على مستوى واحد بل تتباين تباين الجينات والتربية والوعي والأسرة والمدرسة والمسجد والإعلام، وكل هذا التفاعل محمود، إلا أن النفوس البشرية الضعيفة في أصلها تحتاج للمقوّم القانوني، للحد من الأثر الخارجي السلبي، والدولة لا يمكنها تحقيق الإصلاح الخُلقي الجواني للنفس التي شبّهها شاعر بالطفل (والنفس كالطفل إِنْ تُهمله شبّ على حُب الرضاع وإنْ تفطمه ينفطمِ). والفِطامُ إنما يكون فاعلاً ومؤثراً بالنظام.
هناك من يتشاءم من تحولات المرحلة التي يمر مجتمعنا بها ويحمّل مسؤولية بعض الظواهر على ظهر مساحة الانفتاح المتاح، ويحن إلى عقود مضت باعتبار أن أخلاق المجتمع كانت أفضل والحشمة أوفر. وهذا المتشائم يعتقد أن تمكين المرأة وقيادتها السيارة سبب للحالات الفردية السلبية التي يضخمها حديث المجالس، والواقع يؤكد أن النبيل والخلق الأصيل لا يتأثر بانفتاح ولا انغلاق ولا ينتظر واعظاً ليزكيه كما لا يتروّع من قوانين لاستباب الأمن وتعوّد الانضباط.
وأتساءل؛ هل كان يمكن أن نلبس الكمامات بموعظة، أو نربط حزام الأمان بخطبة، أو نخفف السرعة بنصيحة؟ لن أجيب. الإنسان السوي، لا يغفل دور الوعظ النقي والصادق المشفق، لكن المواعظ لا تُغني عن النظام. المواعظ لها احترامها وتقدير طرحها الأخلاقي. والضمير الحي ببراءته الأولى يرى أن لا فضل لحامل الأخلاق في تمسكه بها. و الوازع الأخلاقي اليقظ، يسمع لا إله إلا الله فيتذكر إماطة الأذى عن الطريق.
لا تقبل الأنظمة والتشريعات الحكومية توظيف شكلك ولا شعائرك ولا مظهرك لكسرها أو تحدي السُلطة لأنها بناء منظومة مدنية ومصفوفات قانونية لدولة أخذت في الحسبان مواطنيها وزائريها والمقيمين بها مؤقتاً أو دائما، وتنظر للجميع نظرة عدل ومساواة دون التفات لخبيئة القلوب التي في الصدور.
ربما نعاني لوقت طويل من تبعات مخالفاتنا ودفع ضريبة فوضويتنا وهدرنا وتبذيرنا ومراهقة بعضنا ونحتاج زمناً حتى ينضج الوعي الوطني وتصبح الأخلاق سلوكاً يومياً في البيت والشارع والمسجد والسوق والطريق. الغرب الذي يُعجب البعض احترامه للنظام والوقوف في الطابور مرّ بهذا المسار الذي نمر به، وعسى أن نكون في يوم ما قدوة لغيرنا.
الوعظ يمرر كلاماً دون توفير قدوة، ولذا لا يُغضب الأتباع كونه لا يلزمهم بشيء، بينما القانون يضبط المُشرِّع، والمُشرَّع له. الوعظ مريح والقانون أصلح. والبعض لا يعنيه الأصلح بل المريح.
وهنا يتجلى مفهوم (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).
كاتب سعودي
Al_ARobai@
في عِزّ المد الصحوي كذب أحد المتحمسين للصحوة، والمتعاطفين معها، في مناسبة، وأقسم أيماناً مغلظة أنه صادق، وهو كاذب ويعلم أنه كاذب. عاتبناه فور انتهاء الفعالية وسألناه (ليش تحلف يميناً غموساً، ونحن نعرف أنك (البعيد عنا وعنكم كذّاب)؟ أجاب بكل بساطة؛ الله يغفر ويمهل، ولكن المسؤول الذي كان حاضراً لا يسامح ولن يغفر لي ولا يمهلني.
الإسلام رسالة أخلاقية مُثلى، وحديث (إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق) يؤكد أن الخُلق الكريم فطرة. شأن الخُلق اللئيم. فالإنسان له أخلاق. والعربي كذلك. والمسلم الأصل فيه أن يكون متخلّقاً بأحسنها لأن الدِّين جعل الأخلاق عبادة، ويبلغ المرء بحسن خلقه ما لا يبلغه بعبادته.
سمعنا أكثر من قصة يرفض فيها إنسان بسيط مكافأته على أخلاقه ويرى المكافأة على الأمانة مثلاً عيباً، ويغضب خلوقٌ حين نقول له شكراً على الصدق والإحسان وعدم أذية الخلق غضب جندي أو حارس مؤتمن على كيان وحدود وطن.
شكّلت الصحوة وعياً مزدوجاً لشخصيات غير سويّة بأصلها، بعضها معتل وبعضها مختل. يبكي أمام الملأ وفي خلواته لا يتورع عن استحلال ما حرم الله بأدنى الحِيل. ويبقى هؤلاء قِلة، مقابل الذين يعرفون الله قبل الصحوة وبعدها ويخشونه في الغيب والشهادة أكثر وأكبر من أن تضرب الصحوة بهم ولهم الأمثال.
تتمثل إشكالية بعض المسلمين في أنه لا يلتزم من الأخلاق إلا بما تترتب عليه منفعة له، وكم يبالغ البعض في إظهار التمسك بفضيلة في محيط ما، وسرعان ما يتخلى عنها في محيط ثان، بحكم أن عنايته بأخلاق الإسلام نسبية ومرنة، وتتفصل بمقاسه، بحسب موقعه ومركزه وما يستدعيه الموقف الذي هو فيه، والذمة واسعة والقفا حمّال.
التوجيه الرباني للأخلاق ترغيبي وترهيبي وفق الإيمان (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) بينما مواد ولوائح وتعليمات القانون إلزامية وآنية، ومن يخالف يتحاسب فوراً ويغرّم، وهذا معنى لتسامي الدين الرباني عن كونه سُلطة دنيوية، ومن أدلة ذلك أنه لا معنى لإيمان المُكره. بينما سلطة القانون مُلزمة أحبّ أو كَره. فالمواطنة (حقوق وواجبات).
يتسامح البعض في أخلاق الدين كون تطبيقها اختيارياً، وانتقائياً، يأخذ ما ينسجم معه، ليوظّفه لمصلحته، كالعدل باعتباره قيمة أخلاقية عُليا، إلا أنه مع الأسف أكثر من يدندن حول العدل ويتشدق بأهميته ظَلَمة. يريدون العدل المحقق مكاسب لهم، ولا يريدون العدل الذي يقتص منهم! لأنه تعوّد في حق الله أن يذنب فيستغفر فيتوب الله عليه ويغفر، ويكرر الذنب ويتفضل المنان بديمومة العفو ولا يمل ربنا حتى يملوا.
لا يصلح أن تكون أخلاق النظام والقانون مطاطية. ولو يتبع الحق أهواءهم لفسدت الأرض، بل ضرورة أن تكون صارمة وحازمة وغير متسمة بسمات العلاقة مع الله، فكل مخالفة نظامية موجبة للمحاسبة، وكل جناية تحتم العقوبة إما لحق الدولة العام وإما للحق الخاص للمواطن والمقيم.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه الوحي المحمدي (إنما توضع القوانين للحكومات المنظمة، ذات السلطان والقوة، التي تكفل تنفيذها)، ويضيف (على أن الوحي جاء بأعدل الأصول التي تبني عليها أمة قوانينها، عند تكوين دولتها في الأحوال الملائمة لها، وإنما جاء الوحي لإصلاح الأخلاق والطباع بالحجة القيّمة وطرق الإقناع، والخضوع لوازع الاعتقاد النفسي، دون وازع الحكم القهري، ليغير الناس ما بأنفسهم بالاختيار لا بالقوة والإجبار).
انقدح في ذهني سؤال (هل تصلح أخلاق الناس بالوعظ والإرشاد أم بالقانون والأنظمة الصارمة؟) بالطبع سيجيب مجيب بقوله؛ لا مناص من التذكير و( الحياء طيب) وهذا صحيح، إلا أن الحياء من الله أجمل وأكمل من الحياء من الناس فقط، وربما يرد المستوعب سؤالي بأن (المجاهرة بالمعصية شؤم) والسكوت عنها أشأم، وهذا حق، وربما يجيب ثالث بأن نفسيات البشر وفطرهم ليست على مستوى واحد بل تتباين تباين الجينات والتربية والوعي والأسرة والمدرسة والمسجد والإعلام، وكل هذا التفاعل محمود، إلا أن النفوس البشرية الضعيفة في أصلها تحتاج للمقوّم القانوني، للحد من الأثر الخارجي السلبي، والدولة لا يمكنها تحقيق الإصلاح الخُلقي الجواني للنفس التي شبّهها شاعر بالطفل (والنفس كالطفل إِنْ تُهمله شبّ على حُب الرضاع وإنْ تفطمه ينفطمِ). والفِطامُ إنما يكون فاعلاً ومؤثراً بالنظام.
هناك من يتشاءم من تحولات المرحلة التي يمر مجتمعنا بها ويحمّل مسؤولية بعض الظواهر على ظهر مساحة الانفتاح المتاح، ويحن إلى عقود مضت باعتبار أن أخلاق المجتمع كانت أفضل والحشمة أوفر. وهذا المتشائم يعتقد أن تمكين المرأة وقيادتها السيارة سبب للحالات الفردية السلبية التي يضخمها حديث المجالس، والواقع يؤكد أن النبيل والخلق الأصيل لا يتأثر بانفتاح ولا انغلاق ولا ينتظر واعظاً ليزكيه كما لا يتروّع من قوانين لاستباب الأمن وتعوّد الانضباط.
وأتساءل؛ هل كان يمكن أن نلبس الكمامات بموعظة، أو نربط حزام الأمان بخطبة، أو نخفف السرعة بنصيحة؟ لن أجيب. الإنسان السوي، لا يغفل دور الوعظ النقي والصادق المشفق، لكن المواعظ لا تُغني عن النظام. المواعظ لها احترامها وتقدير طرحها الأخلاقي. والضمير الحي ببراءته الأولى يرى أن لا فضل لحامل الأخلاق في تمسكه بها. و الوازع الأخلاقي اليقظ، يسمع لا إله إلا الله فيتذكر إماطة الأذى عن الطريق.
لا تقبل الأنظمة والتشريعات الحكومية توظيف شكلك ولا شعائرك ولا مظهرك لكسرها أو تحدي السُلطة لأنها بناء منظومة مدنية ومصفوفات قانونية لدولة أخذت في الحسبان مواطنيها وزائريها والمقيمين بها مؤقتاً أو دائما، وتنظر للجميع نظرة عدل ومساواة دون التفات لخبيئة القلوب التي في الصدور.
ربما نعاني لوقت طويل من تبعات مخالفاتنا ودفع ضريبة فوضويتنا وهدرنا وتبذيرنا ومراهقة بعضنا ونحتاج زمناً حتى ينضج الوعي الوطني وتصبح الأخلاق سلوكاً يومياً في البيت والشارع والمسجد والسوق والطريق. الغرب الذي يُعجب البعض احترامه للنظام والوقوف في الطابور مرّ بهذا المسار الذي نمر به، وعسى أن نكون في يوم ما قدوة لغيرنا.
الوعظ يمرر كلاماً دون توفير قدوة، ولذا لا يُغضب الأتباع كونه لا يلزمهم بشيء، بينما القانون يضبط المُشرِّع، والمُشرَّع له. الوعظ مريح والقانون أصلح. والبعض لا يعنيه الأصلح بل المريح.
وهنا يتجلى مفهوم (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).
كاتب سعودي
Al_ARobai@