خلال الأشهر الماضية، جرت عملية عميقة للعودة بسلام للقواعد التقليدية في السياسة السعودية، بعد أعوام من هندسة العلاقات السعودية مع جيرانها والعالم على أساس مواجهة المخاطر والتصدي للخصوم وخيار القفاز الحديدي، في عملية إعادة تموضع استغرقت خمس سنوات كاملة.
وقبل أن نخوض في خيرات العودة التي بدأت شاراتها للمراقبين منذ أكثر من عام، علينا أن نعرف لماذا لبست الرياض قفازاً حديدياً منذ عام 2015 وهل كانت محقة.
كانت المملكة تستشعر الاضطرابات في المنطقة وخطورتها ليس على بلادها فقط بل وعلى فضائها العربي، الذي تلتزم تجاهه أخلاقياً بالمحافظة عليه وحمايته، أجواء مصنوعة رتبت بعناية بدأت 2011 هادمة السور العربي ومحطمة في طريقها بلدانا عدة، ومحولة إياها لدول فاشلة في تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن وكادت أن تطيح بالبحرين لولا الإرادة السعودية والترحيب البحريني.
لم تكن المملكة بمعزل عن خطط قوى خارجية دعمت بكل أدواتها حدوث اضطرابات في المملكة، ولولا حكمة القيادة السعودية والالتفاف الشعبي لقام الطابور الخامس والمتخابرون بإشعال الحريق في ثياب السعوديين، لقد كان تلافيه أمراً خارقاً، ودليلاً واضحاً على عمق الشرعية وترسخها وفهم المواطنين لها وإيمانهم المطلق بها.
لم يكن ذلك الموقف السياسي والأمني هو ما حرك الرياض فقط، بل كان الاقتصاد يعيش وضعاً مؤلماً؛ فأسعار النفط تنازع، والالتزامات المالية ضخمة لدرجة أن الميزانية العام للدولة ولأعوام قادمة لا تستطيع تلبيتها، فكان لابد من إعادة هيكلته، وتغيير خارطته وإطلاق رؤية قادها الأمير محمد بن سلمان تحمله للمستقبل.
أخذت المعالجة السعودية مسارات عدة، لكنها قررت أن لا تسامح مع من يريد اقتلاعك من جذورك، ومن يتحول من صديق لعدو، ومن يتدخل في شأنك الداخلي، فالخصوم لم يكونوا على خلاف سياسي مع الرياض ولا تباين في وجهات النظر تجاه ملفات، بل انخرطوا في مشروع للقضاء عليها، وهذا ما لا يمكن التفاهم معه ولا يقبل إنصاف الحلول.
لقد كانت حصاداً لسنوات رأت فيها القيادة السعودية أن انتظار الأخطار كارثة كبرى وأن مواجهتها والذهاب في عقر دارها هو الحل الأمثل، فجاء ترتيب العلاقات مع المحيط الخليجي والعربي والإقليمي والإسلامي والدولي منطلقاً من تلك الأخطار وكيفية معالجتها ومواجهتها.
اعتاد العالم ومنذ تأسيس المملكة في دولتها الثالثة على سياسة معظم خياراتها التأني وتقديم السلام والتغافل والعفو، ولعل حرب الخليج الثانية مع صدام حسين خير مثال، فقد رأت الرياض أن العمل في الكواليس والمكاتب الخلفية أفضل من مواجهة صدام في الأيام الخمسة الأولى، حرصاً منها على إعطاء صدام فرصة للتراجع وإنهاء الأزمة، ومع تعنت صدام إلا أن الرياض أبقت الأبواب مفتوحة لأي تراجع حفاظاً على العراق وعلى مكتسباته، ولم تبدأ في خياراته العسكرية مع حلفائها إلا بعد تسعة أشهر من الأزمة الكبيرة.
اليوم وبعد أن وجدت الرياض أنها انتهت من مرحلة مراجعاتها السياسية في الإقليم والعالم، وأعادت ترتيب البيت من الداخل أمنياً واقتصادياً، تعود إلى مراكزها التقليدية التي سبغت سياستها لمئة عام، متوجة من الأدوار القيادية لخادم الحرمين الشريفين في الحفاظ على وحدة الصف الخليجي والبيت العربي والمرجعية الإسلامية، ومنطلقة من رؤيته الاستراتيجية التي أعلنها المليك في العديد من المناسبات، ومستلهمة حرص ولي العهد لمستقبل منطقة الخليج والعالم العربي، الذي قال عنه في منتدى دافوس الصحراء: «نريد أن تكون هذه المنطقة هي أوروبا الجديدة»، لذلك فإن الاجتماع الخليجي الأخير بكل تفاصيله ونتائجه، يؤكد مرة أخرى أن البناء السعودي يبدأ من مجلس التعاون منطلقاً نحو الإقليم العربي ثم العالم الإسلامي.
لقد عرف صناع السياسة العالمية أن عند السعوديين يداً صلبة وإرادة حديدية للمواجهة إذا أرادوها، وفي المقابل قدرة على العطاء والإيثار والتحمل والصبر والمعالجة السياسية لا حد لها.
كاتب سعودي
massaaed@
وقبل أن نخوض في خيرات العودة التي بدأت شاراتها للمراقبين منذ أكثر من عام، علينا أن نعرف لماذا لبست الرياض قفازاً حديدياً منذ عام 2015 وهل كانت محقة.
كانت المملكة تستشعر الاضطرابات في المنطقة وخطورتها ليس على بلادها فقط بل وعلى فضائها العربي، الذي تلتزم تجاهه أخلاقياً بالمحافظة عليه وحمايته، أجواء مصنوعة رتبت بعناية بدأت 2011 هادمة السور العربي ومحطمة في طريقها بلدانا عدة، ومحولة إياها لدول فاشلة في تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن وكادت أن تطيح بالبحرين لولا الإرادة السعودية والترحيب البحريني.
لم تكن المملكة بمعزل عن خطط قوى خارجية دعمت بكل أدواتها حدوث اضطرابات في المملكة، ولولا حكمة القيادة السعودية والالتفاف الشعبي لقام الطابور الخامس والمتخابرون بإشعال الحريق في ثياب السعوديين، لقد كان تلافيه أمراً خارقاً، ودليلاً واضحاً على عمق الشرعية وترسخها وفهم المواطنين لها وإيمانهم المطلق بها.
لم يكن ذلك الموقف السياسي والأمني هو ما حرك الرياض فقط، بل كان الاقتصاد يعيش وضعاً مؤلماً؛ فأسعار النفط تنازع، والالتزامات المالية ضخمة لدرجة أن الميزانية العام للدولة ولأعوام قادمة لا تستطيع تلبيتها، فكان لابد من إعادة هيكلته، وتغيير خارطته وإطلاق رؤية قادها الأمير محمد بن سلمان تحمله للمستقبل.
أخذت المعالجة السعودية مسارات عدة، لكنها قررت أن لا تسامح مع من يريد اقتلاعك من جذورك، ومن يتحول من صديق لعدو، ومن يتدخل في شأنك الداخلي، فالخصوم لم يكونوا على خلاف سياسي مع الرياض ولا تباين في وجهات النظر تجاه ملفات، بل انخرطوا في مشروع للقضاء عليها، وهذا ما لا يمكن التفاهم معه ولا يقبل إنصاف الحلول.
لقد كانت حصاداً لسنوات رأت فيها القيادة السعودية أن انتظار الأخطار كارثة كبرى وأن مواجهتها والذهاب في عقر دارها هو الحل الأمثل، فجاء ترتيب العلاقات مع المحيط الخليجي والعربي والإقليمي والإسلامي والدولي منطلقاً من تلك الأخطار وكيفية معالجتها ومواجهتها.
اعتاد العالم ومنذ تأسيس المملكة في دولتها الثالثة على سياسة معظم خياراتها التأني وتقديم السلام والتغافل والعفو، ولعل حرب الخليج الثانية مع صدام حسين خير مثال، فقد رأت الرياض أن العمل في الكواليس والمكاتب الخلفية أفضل من مواجهة صدام في الأيام الخمسة الأولى، حرصاً منها على إعطاء صدام فرصة للتراجع وإنهاء الأزمة، ومع تعنت صدام إلا أن الرياض أبقت الأبواب مفتوحة لأي تراجع حفاظاً على العراق وعلى مكتسباته، ولم تبدأ في خياراته العسكرية مع حلفائها إلا بعد تسعة أشهر من الأزمة الكبيرة.
اليوم وبعد أن وجدت الرياض أنها انتهت من مرحلة مراجعاتها السياسية في الإقليم والعالم، وأعادت ترتيب البيت من الداخل أمنياً واقتصادياً، تعود إلى مراكزها التقليدية التي سبغت سياستها لمئة عام، متوجة من الأدوار القيادية لخادم الحرمين الشريفين في الحفاظ على وحدة الصف الخليجي والبيت العربي والمرجعية الإسلامية، ومنطلقة من رؤيته الاستراتيجية التي أعلنها المليك في العديد من المناسبات، ومستلهمة حرص ولي العهد لمستقبل منطقة الخليج والعالم العربي، الذي قال عنه في منتدى دافوس الصحراء: «نريد أن تكون هذه المنطقة هي أوروبا الجديدة»، لذلك فإن الاجتماع الخليجي الأخير بكل تفاصيله ونتائجه، يؤكد مرة أخرى أن البناء السعودي يبدأ من مجلس التعاون منطلقاً نحو الإقليم العربي ثم العالم الإسلامي.
لقد عرف صناع السياسة العالمية أن عند السعوديين يداً صلبة وإرادة حديدية للمواجهة إذا أرادوها، وفي المقابل قدرة على العطاء والإيثار والتحمل والصبر والمعالجة السياسية لا حد لها.
كاتب سعودي
massaaed@