حل شتاء قاس وقارس البرودة على قرية بيوتها رقيقة الجدران والسقوف. لم يستعد (شقران ) بتأمين المؤونة اللازمة لمجابهة الزمهرير بأعواد قرض الفيض. وقد لا يتعاطف معه أحد من القرويين للنزول للمشرق للاحتطاب. فمعظم أهل القرية اكتفوا من الحطب خلال فصل الصيف مستغلين صفاء ودفء الجو، فكنزوا ما يلزم لموسم القرّ السنوي.
قال لنفسه: يستاهل البرد من ضيع دفاه، استدرك : ما لي إلا أبو ريحانة، أعطيه علفة للبقرة ويكريني الجمل وهو معه. سمع المؤذن يردد «صلّوا في رحالكم» قال:عندكم، أحرمنا الصلاة ومن مواعدة أبو ريحانة. اتجه للقبلة وأدى ثلاث ركعات على عجل، وأخذ سفرة مشمع فوق رأسه، وقصد بيت الجمّال، ردّ عليه: أبشر بالجمل وراعيه. ثم قال: خيرة الله تمسي معنا فاعتذر بكون عياله في حراه بالعشا.
مع انبلاج سفر الفجر ارتدى ثوبه الغامق، وأحكم فتحة الصدر بمشبك، وعصب رأسه بالعمامة، وتناول العطيف ووضعه على كتفه الأيسر، وندر من الدرجة. لحقه حفيده (شافي) ليناوله الحبل والزنبيل المدرج فيه دلة وقهوة مطحونة وقرفة وزنجبيل ونصف خبزة ذرة. التفت إليه وتبسم بوجهه دون أن يفتح فمه الذي لم يبق فيه إلا ناب واحدة، يداريها بإحكام عند التبسم تفادياً للشماتة، فقال للحفيد: الحقني بالحمارة والزنبيل عند بيت عمك أبو ريحانة. فك رباطها من ركن السفل المظلم. وكادت تسحبه وهي تنهق وتركض باتجاه المسراب، فشد الخطام وركدت. عندما لمحته ريحانة مقبلاً مع جده تعمدت أن تخرج بالقربة لتناول أبوها، وركزت نظرها عليه، وافتر ثغرها عن ضحكة عندما شافت لحيه يرقل من السمطة.
صاح عليه الجمّال الذي كان ينتظره تحت رعش البيت، وهو يداري حبات التمر وكسرة الخبزة المحفوظة في زنبيل الخوص عن سَرَب سقف الجيران لم يتوقف سيلانه بماء المطر منذ ليلة البارحة؛ (أعجل) قال شقران: وش هذي الربشة فيك يا رجال ما خليتني أحزم كمري في وسطي؟ ردّ عليه: الله ما أوتحك، أثقل من حجر أبو علي. تدري أن النهار يغتر، ولو ضربنا المطر في الحزم برك جملنا وحمارتنا وقعدنا جنبهما وانحن نشوف السماء أقرب من الحيلة.
وقفت ابنة الجمال في الباب تنتظر مسراح أبوها وجاره للاحتطاب. ناوله العطيف ليضعه على الشداد، والجمل يتشمشم ثوب (ريحانة). شد الحذاء البلستيك على قدميه، وأدخل قطع قماش تحت سيوره التي تثبت الزنوبة في مؤخرة العرقوب لتحمي رجليه من حز حافتهما خلال المشي الطويل، وطلب من ريحانة شحمة صغيرة يليّن بها فقوع الكعبين التي تشبه كومة رمال خشنة، وزاد: هبي لنا وأنا أبوك شُقاقة من حطب القرض نسوي عليه قهوتنا، فدخل معها شافي وعادا بحطب مشقق لقطع صغيرة.
خف رذاذ المطر، وعاد وجه الشمس للتجلي من بين السحب كوجه فاتنة خفر من وراء خمار شفيف، ومع تجاوزهما آخر بيوت القرية، طلب منه يبرّك الجمل ليركب، فاعتذر منه كون إجهاد البعير في المسراح يدفعان ثمنه عند المرواح، فعلّق أما أنا والله باركب حمارتي. ركب ولكزها بكعبيه لتنطلق، وأبو ريحانة تتملكه هواجس وقلق من مفاجآت اليوم الخريفي، كان شقران مشغول بلم ما تقع عليه يده من قشاش ناشف من البلل ليشعل به النار ويشوي عليه مقسوم الله من طيور وأرانب.
في نهاية المنحدر الأول أغراهم الغدير العبق بما حوله من نبات الحبق والشث، بحط الرحل والتروي، وقال لصاحبه: خلنا نتفاول حده أصحى. لم تشتعل النار بسهولة بحكم تشبع الأرض بالندى، صب فنجالين معطرة، وانفتحت شهيته لحبات التمر الصفري، فنهاه عن الإكثار حتى لا يظمأ، ملأ القربة، وعلقها في خي الجمل.
وصلا لوادي القرض مع العصر، وانقلب النهار عليهما. اسودت السماء، باحتشاد السحب الداكنة. فربطا الجمل والحمارة في طلحة ولاذا بغار بالكاد اتسع لهما. سرى عليهما برد وجوع وخوف. وكلما دق الراعد وبرق البرق قال أحدهما: كريم. والثاني: يرد. يا الله أمّنا خوفنا.
تعاوت الذيابة، فطلب من صاحبه يقرّب الجمل والحمارة من فتحة الغار، ليحتميا بهما من البرد والرذاذ، ويحمون الحيوانات من الخوف.
أشعل ما تبقى من قرض ريحانة داخل الغار، وضكت الداخنة، فسرى الدفء في الغار، وغفت عين راعي الجمل، وإذا بصوت أنثوي يردد (السروي لا حداه البرد يندر تهامة) فارتعد، عزم ينادي رفيقه فنشب صوته في حلقه ويبست شفاهه، وحاول مد رجله ليوقظ بها رفيقه النائم الذي كان يغط في سابع نومة فكانت متخشبة.
بعد صلاة الظهر في يوم تال. عاد الجمل والجمال بالحطب. والحمارة مربوط قيادها في ذيل الجمل وموثق على ظهرها جسد نحيل يردد (السروي لا حداه البرد يندر تهامة).
كاتب سعودي
Al_ARobai@
قال لنفسه: يستاهل البرد من ضيع دفاه، استدرك : ما لي إلا أبو ريحانة، أعطيه علفة للبقرة ويكريني الجمل وهو معه. سمع المؤذن يردد «صلّوا في رحالكم» قال:عندكم، أحرمنا الصلاة ومن مواعدة أبو ريحانة. اتجه للقبلة وأدى ثلاث ركعات على عجل، وأخذ سفرة مشمع فوق رأسه، وقصد بيت الجمّال، ردّ عليه: أبشر بالجمل وراعيه. ثم قال: خيرة الله تمسي معنا فاعتذر بكون عياله في حراه بالعشا.
مع انبلاج سفر الفجر ارتدى ثوبه الغامق، وأحكم فتحة الصدر بمشبك، وعصب رأسه بالعمامة، وتناول العطيف ووضعه على كتفه الأيسر، وندر من الدرجة. لحقه حفيده (شافي) ليناوله الحبل والزنبيل المدرج فيه دلة وقهوة مطحونة وقرفة وزنجبيل ونصف خبزة ذرة. التفت إليه وتبسم بوجهه دون أن يفتح فمه الذي لم يبق فيه إلا ناب واحدة، يداريها بإحكام عند التبسم تفادياً للشماتة، فقال للحفيد: الحقني بالحمارة والزنبيل عند بيت عمك أبو ريحانة. فك رباطها من ركن السفل المظلم. وكادت تسحبه وهي تنهق وتركض باتجاه المسراب، فشد الخطام وركدت. عندما لمحته ريحانة مقبلاً مع جده تعمدت أن تخرج بالقربة لتناول أبوها، وركزت نظرها عليه، وافتر ثغرها عن ضحكة عندما شافت لحيه يرقل من السمطة.
صاح عليه الجمّال الذي كان ينتظره تحت رعش البيت، وهو يداري حبات التمر وكسرة الخبزة المحفوظة في زنبيل الخوص عن سَرَب سقف الجيران لم يتوقف سيلانه بماء المطر منذ ليلة البارحة؛ (أعجل) قال شقران: وش هذي الربشة فيك يا رجال ما خليتني أحزم كمري في وسطي؟ ردّ عليه: الله ما أوتحك، أثقل من حجر أبو علي. تدري أن النهار يغتر، ولو ضربنا المطر في الحزم برك جملنا وحمارتنا وقعدنا جنبهما وانحن نشوف السماء أقرب من الحيلة.
وقفت ابنة الجمال في الباب تنتظر مسراح أبوها وجاره للاحتطاب. ناوله العطيف ليضعه على الشداد، والجمل يتشمشم ثوب (ريحانة). شد الحذاء البلستيك على قدميه، وأدخل قطع قماش تحت سيوره التي تثبت الزنوبة في مؤخرة العرقوب لتحمي رجليه من حز حافتهما خلال المشي الطويل، وطلب من ريحانة شحمة صغيرة يليّن بها فقوع الكعبين التي تشبه كومة رمال خشنة، وزاد: هبي لنا وأنا أبوك شُقاقة من حطب القرض نسوي عليه قهوتنا، فدخل معها شافي وعادا بحطب مشقق لقطع صغيرة.
خف رذاذ المطر، وعاد وجه الشمس للتجلي من بين السحب كوجه فاتنة خفر من وراء خمار شفيف، ومع تجاوزهما آخر بيوت القرية، طلب منه يبرّك الجمل ليركب، فاعتذر منه كون إجهاد البعير في المسراح يدفعان ثمنه عند المرواح، فعلّق أما أنا والله باركب حمارتي. ركب ولكزها بكعبيه لتنطلق، وأبو ريحانة تتملكه هواجس وقلق من مفاجآت اليوم الخريفي، كان شقران مشغول بلم ما تقع عليه يده من قشاش ناشف من البلل ليشعل به النار ويشوي عليه مقسوم الله من طيور وأرانب.
في نهاية المنحدر الأول أغراهم الغدير العبق بما حوله من نبات الحبق والشث، بحط الرحل والتروي، وقال لصاحبه: خلنا نتفاول حده أصحى. لم تشتعل النار بسهولة بحكم تشبع الأرض بالندى، صب فنجالين معطرة، وانفتحت شهيته لحبات التمر الصفري، فنهاه عن الإكثار حتى لا يظمأ، ملأ القربة، وعلقها في خي الجمل.
وصلا لوادي القرض مع العصر، وانقلب النهار عليهما. اسودت السماء، باحتشاد السحب الداكنة. فربطا الجمل والحمارة في طلحة ولاذا بغار بالكاد اتسع لهما. سرى عليهما برد وجوع وخوف. وكلما دق الراعد وبرق البرق قال أحدهما: كريم. والثاني: يرد. يا الله أمّنا خوفنا.
تعاوت الذيابة، فطلب من صاحبه يقرّب الجمل والحمارة من فتحة الغار، ليحتميا بهما من البرد والرذاذ، ويحمون الحيوانات من الخوف.
أشعل ما تبقى من قرض ريحانة داخل الغار، وضكت الداخنة، فسرى الدفء في الغار، وغفت عين راعي الجمل، وإذا بصوت أنثوي يردد (السروي لا حداه البرد يندر تهامة) فارتعد، عزم ينادي رفيقه فنشب صوته في حلقه ويبست شفاهه، وحاول مد رجله ليوقظ بها رفيقه النائم الذي كان يغط في سابع نومة فكانت متخشبة.
بعد صلاة الظهر في يوم تال. عاد الجمل والجمال بالحطب. والحمارة مربوط قيادها في ذيل الجمل وموثق على ظهرها جسد نحيل يردد (السروي لا حداه البرد يندر تهامة).
كاتب سعودي
Al_ARobai@