ليس هناك وطن عظيم اكتسب ضخامته وفخامته بالكلام أو بالشعارات والخطابات والزعامات المُفوّهة، بل بالإيمان بالقدرات، والاعتداد بالذات، والعمل المُتوج بمنجزات، وتماسك نسيجه الاجتماعي والوطني واصطفافه في الشدة والرخاء حتى لكأنه روح واحدة في أجساد عدة.
تبدأ الدول يافعة، وتهتدي لدورها، وتقتدي بالنماذج الناجحة، والتجارب الموفقة، وتجابه الصعوبات، وتتجاوز التحديات، وكيد العداءات، وتدفع الثمن وإن كان باهظاً، وتتحمل الأعباء مهما كان ثقلها، في سبيل الحفاظ على الكيان والكينونة.
مرّت بلادنا ومرّ بها عبر تاريخها منعطفات خطرة، تجاوزتها بالدبلوماسية، والتكتيك المُحنّك، إلا أن أبرز ما نفاخر به اليوم مع أي إشكال أو محاولة افتعال أزمة أو تفكير في النيل من رمز (حضور المواطنين والمواطنات) واستشعارهم مسؤوليتهم، إذ بمقدار ثقة الشعب بقيادته، واحترام القيادة لشعبها واعتبارها له، تتشكل القوة الفاعلة في صياغة جبهة الصمود والتصدي، وتحقيق الأهداف وتثبيت الموقع في الصدارة، وعلى قدر صعوبة امتحان الأقدار تتأكد جدارة المُختَبَر.
وليس سلبياً بل من الإيجابية أن يمتد اهتمام الإنسان ببيت الجيران وبيوت الحي والمنطقة، إلا أن الأجمل أن يبدأ اهتمامه الأول والأوفر بمنزله. وبيت عائلته، ومسقط رأسه، ثم يتوسع في الاهتمام بمن يشاء كيفما شاء، ومن التجارب المحفّزة على التعلم والاستفادة منها ما استهوى البعض من أجندات شتت مشاعرنا وشوشت ملامح وطننا في أعيينا ووعينا فغفل البعض عن الحضن الدافئ، وعقّ البعض الصدر الحنون، وعضّ البعض الكف السخية.
ولربما لم يتحرر مفهوم ومعنى الوطن السعودي مُبكراً في أذهان بعض أجيال سابقة لجيلي ومجايلة ولاحقة. فتعرضنا لحالة فصام صنعها خطاب إعلامي مشوّش لصورة الوطن، سمم أذهان ومشاعر البعض حد الافتتان بأوطان وزعامات أخرى على حساب سعوديتنا، وجرى اختطاف شريحة منا بمنشورات تضليل، ما حرمها صادق الانتماء الوفاء والعشق والولاء.
وجنّدت أطراف بدافع الغيرة أو الحسد أو العمالة بعضنا لتمجيد وحدة الآخرين الفاشلة، وتجاهل الوحدة والتوحيد الناجحين. وربما جنح البعض إلى محاولة اغتيال المنجز الوطني السعودي والتهوين من شأنه والقفز عليه وتعمية الحقائق ونعت عودة الروح لجزيرة العرب واستتباب الأمن فيها بالرجعية، واستغلال مشاعر بعض الحمقى لإعلاء شأن تجربة الغير برغم تواضعها وخلق الأعذار والمبررات لفشلها، دون أي إشادة بالنجاح الذي حققه مؤسس بلادنا الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وأولاده وأحفاده من بعده.
مما يحضرني من صور النزق القومي تلك البرامج والأفكار المُجنحة بخيال الأجيال مع الأمة العربية ذات الرسالة الخالدة والوحدة الاندماجية، التي عبثت بمصائر شعوب طيلة عقود عقب نشوء الدولة الوطنية، واضطر النائمون لدفع ثمن الأحلام المصنوعة من زبدة.
استدرج الطرح المؤجج نار العاطفة بعضنا فانبرى لتمجيد رايات سحرت ألبابنا فتم تسمير صور شخصيات في صدر مجالسنا ومكاتبنا وراهنا على بطولات ورقية وهوائية ووهمية، لنثبت لمسوقي القومية تقدميتنا، وكأنما النسيان لموطننا وخجل البعض من رفع راية التوحيد دليل الثقافة والوعي والنخبوية!!
تعرضت مناهج تعليمنا وإعلامنا لتطاول القوميين بترويج منتج العروبية (ببلاد العُرب أوطاني، فلا حد يباعدنا، ولا دين يفرقنا)، ولم نكد نفيق من حلم قوميتنا ونبلغ سن الرشد حتى دخلنا في مراهقة الإسلاموية، وجاء الإخوان والسرورية بأيديولوجية أوسع أدخلتنا في تيه التاريخ وعصوره المُظلمة. واختطفتنا أناشيدها الأممية (إسلامية إسلامية لا شرقية ولا غربية).
شواهد عدة تدل على آثار وتجليات الانسياق الأحمق خلف بائعي الوهم، وتجار الشعارات، وسماسرة الأجندات تمثلت في تأسيس البعض لتنظيمات، واحتلال جماعة الحرم المكي، وتفجير إرهابيين أنفسهم في منشآت ومقرات، وتطاول أياد آثمة على رجال الأمن. وكم من قصص التآمر والارتماء بأحضان أعداء العروبة والإسلام والإنسانية تؤكد تأثر ضعاف العقول والأنفس والمشاعر، من شخصيات ذوات اعتلالات نفسية وأخلاقية واجتماعية توهمت إمكانية التكفير عن ماضيها المظلم بما هو أشد ظلامية وظلماً، فاندفعت بطيش لقطع وشائج القربى مع الأهل وبتر صلة الرحم بالوطن.
الانتماء للمكان والأزمنة والإنسان يمنح للهوية معنى، والهوية الوطنية اعتدال وثبات يحول دون أسرنا باليمينية، أو اليسارية وتنجينا من أن نكون مثل بندول الساعة المعلق لا يقر له قرار.
الوطن السعودي هو هذه المساحة الآمنة، والقيادة الراشدة، والمنجزات المتوالية، والشعور بالطمأنينة التي يضحي البعض بروحه في سبيل البحث عنها، والوطن آباؤنا وأجدادنا الذين رووا هذا الثرى بدمائهم، لينقشوا في ذاكرة القريب والبعيد بأننا لسنا هامشاً بل متن السيرة.
تتأسس الوطنية على الانتساب بالحُبِّ والأدب المتبادل، لكن لا غنى عن العمل والإخلاص فيه والإبداع، ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه، وربما للمراحل العمرية دور في إنضاج الوعي بالتجربة ما يكشف زيف بعض المبشرين بالعناوين الصارخة ويتيح لنا العودة لفطرتنا سالمين، ولعل البعض لا يفطن أننا نوقن بصواب ما نفعل في كل مرحلة حتى يهبنا الله إدراكاً نميز به العقلاني من العاطفي والموضوعي من الذاتي والصالح من الطالح والنافع من الضار، ونفرّق حينها بين يُحبنا وإن بَعُدَ وبين من يعانقنا ليخنقنا.
لعله أتى اليوم الذي نفصل فيه بين المراهقة والنزق وعبث الصبيان واللامنتمين، وبين اكتمال الصورة المشرقة لبلادنا بغرس الوطنية في الوجدان، وسقيها بذوب القلب، ورعايتها ما دامت توفرت دواعي الأسباب التي تجعلنا نفهم ونقدّر، ونتحكّم في المشاعر، ونؤمن بمسار التطور وبحاجة مملكتنا لنا، وحاجتنا الماسة لديمومة وسلامة وقوة وتماسك وطني الحبيب، دون التفات لشعارات تُرفع أو خطابات تسوّق أو دسائس تثار، فكل الأسوياء في الأرض يعشقون أوطانهم ويتباهون بمنجزها ويذودون عنها وعن رموزها بالنفس والنفيس، والمُنبتّ لا يمكن أن يوثّق صلتك بوطنك حتى وإنْ نسب نفسه لله. علماً بأن الوطن ليس نعيماً دائماً إلا أنه لا يمكن أن يكون جحيماً.
كاتب سعودي
Al_ARobai@
تبدأ الدول يافعة، وتهتدي لدورها، وتقتدي بالنماذج الناجحة، والتجارب الموفقة، وتجابه الصعوبات، وتتجاوز التحديات، وكيد العداءات، وتدفع الثمن وإن كان باهظاً، وتتحمل الأعباء مهما كان ثقلها، في سبيل الحفاظ على الكيان والكينونة.
مرّت بلادنا ومرّ بها عبر تاريخها منعطفات خطرة، تجاوزتها بالدبلوماسية، والتكتيك المُحنّك، إلا أن أبرز ما نفاخر به اليوم مع أي إشكال أو محاولة افتعال أزمة أو تفكير في النيل من رمز (حضور المواطنين والمواطنات) واستشعارهم مسؤوليتهم، إذ بمقدار ثقة الشعب بقيادته، واحترام القيادة لشعبها واعتبارها له، تتشكل القوة الفاعلة في صياغة جبهة الصمود والتصدي، وتحقيق الأهداف وتثبيت الموقع في الصدارة، وعلى قدر صعوبة امتحان الأقدار تتأكد جدارة المُختَبَر.
وليس سلبياً بل من الإيجابية أن يمتد اهتمام الإنسان ببيت الجيران وبيوت الحي والمنطقة، إلا أن الأجمل أن يبدأ اهتمامه الأول والأوفر بمنزله. وبيت عائلته، ومسقط رأسه، ثم يتوسع في الاهتمام بمن يشاء كيفما شاء، ومن التجارب المحفّزة على التعلم والاستفادة منها ما استهوى البعض من أجندات شتت مشاعرنا وشوشت ملامح وطننا في أعيينا ووعينا فغفل البعض عن الحضن الدافئ، وعقّ البعض الصدر الحنون، وعضّ البعض الكف السخية.
ولربما لم يتحرر مفهوم ومعنى الوطن السعودي مُبكراً في أذهان بعض أجيال سابقة لجيلي ومجايلة ولاحقة. فتعرضنا لحالة فصام صنعها خطاب إعلامي مشوّش لصورة الوطن، سمم أذهان ومشاعر البعض حد الافتتان بأوطان وزعامات أخرى على حساب سعوديتنا، وجرى اختطاف شريحة منا بمنشورات تضليل، ما حرمها صادق الانتماء الوفاء والعشق والولاء.
وجنّدت أطراف بدافع الغيرة أو الحسد أو العمالة بعضنا لتمجيد وحدة الآخرين الفاشلة، وتجاهل الوحدة والتوحيد الناجحين. وربما جنح البعض إلى محاولة اغتيال المنجز الوطني السعودي والتهوين من شأنه والقفز عليه وتعمية الحقائق ونعت عودة الروح لجزيرة العرب واستتباب الأمن فيها بالرجعية، واستغلال مشاعر بعض الحمقى لإعلاء شأن تجربة الغير برغم تواضعها وخلق الأعذار والمبررات لفشلها، دون أي إشادة بالنجاح الذي حققه مؤسس بلادنا الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وأولاده وأحفاده من بعده.
مما يحضرني من صور النزق القومي تلك البرامج والأفكار المُجنحة بخيال الأجيال مع الأمة العربية ذات الرسالة الخالدة والوحدة الاندماجية، التي عبثت بمصائر شعوب طيلة عقود عقب نشوء الدولة الوطنية، واضطر النائمون لدفع ثمن الأحلام المصنوعة من زبدة.
استدرج الطرح المؤجج نار العاطفة بعضنا فانبرى لتمجيد رايات سحرت ألبابنا فتم تسمير صور شخصيات في صدر مجالسنا ومكاتبنا وراهنا على بطولات ورقية وهوائية ووهمية، لنثبت لمسوقي القومية تقدميتنا، وكأنما النسيان لموطننا وخجل البعض من رفع راية التوحيد دليل الثقافة والوعي والنخبوية!!
تعرضت مناهج تعليمنا وإعلامنا لتطاول القوميين بترويج منتج العروبية (ببلاد العُرب أوطاني، فلا حد يباعدنا، ولا دين يفرقنا)، ولم نكد نفيق من حلم قوميتنا ونبلغ سن الرشد حتى دخلنا في مراهقة الإسلاموية، وجاء الإخوان والسرورية بأيديولوجية أوسع أدخلتنا في تيه التاريخ وعصوره المُظلمة. واختطفتنا أناشيدها الأممية (إسلامية إسلامية لا شرقية ولا غربية).
شواهد عدة تدل على آثار وتجليات الانسياق الأحمق خلف بائعي الوهم، وتجار الشعارات، وسماسرة الأجندات تمثلت في تأسيس البعض لتنظيمات، واحتلال جماعة الحرم المكي، وتفجير إرهابيين أنفسهم في منشآت ومقرات، وتطاول أياد آثمة على رجال الأمن. وكم من قصص التآمر والارتماء بأحضان أعداء العروبة والإسلام والإنسانية تؤكد تأثر ضعاف العقول والأنفس والمشاعر، من شخصيات ذوات اعتلالات نفسية وأخلاقية واجتماعية توهمت إمكانية التكفير عن ماضيها المظلم بما هو أشد ظلامية وظلماً، فاندفعت بطيش لقطع وشائج القربى مع الأهل وبتر صلة الرحم بالوطن.
الانتماء للمكان والأزمنة والإنسان يمنح للهوية معنى، والهوية الوطنية اعتدال وثبات يحول دون أسرنا باليمينية، أو اليسارية وتنجينا من أن نكون مثل بندول الساعة المعلق لا يقر له قرار.
الوطن السعودي هو هذه المساحة الآمنة، والقيادة الراشدة، والمنجزات المتوالية، والشعور بالطمأنينة التي يضحي البعض بروحه في سبيل البحث عنها، والوطن آباؤنا وأجدادنا الذين رووا هذا الثرى بدمائهم، لينقشوا في ذاكرة القريب والبعيد بأننا لسنا هامشاً بل متن السيرة.
تتأسس الوطنية على الانتساب بالحُبِّ والأدب المتبادل، لكن لا غنى عن العمل والإخلاص فيه والإبداع، ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه، وربما للمراحل العمرية دور في إنضاج الوعي بالتجربة ما يكشف زيف بعض المبشرين بالعناوين الصارخة ويتيح لنا العودة لفطرتنا سالمين، ولعل البعض لا يفطن أننا نوقن بصواب ما نفعل في كل مرحلة حتى يهبنا الله إدراكاً نميز به العقلاني من العاطفي والموضوعي من الذاتي والصالح من الطالح والنافع من الضار، ونفرّق حينها بين يُحبنا وإن بَعُدَ وبين من يعانقنا ليخنقنا.
لعله أتى اليوم الذي نفصل فيه بين المراهقة والنزق وعبث الصبيان واللامنتمين، وبين اكتمال الصورة المشرقة لبلادنا بغرس الوطنية في الوجدان، وسقيها بذوب القلب، ورعايتها ما دامت توفرت دواعي الأسباب التي تجعلنا نفهم ونقدّر، ونتحكّم في المشاعر، ونؤمن بمسار التطور وبحاجة مملكتنا لنا، وحاجتنا الماسة لديمومة وسلامة وقوة وتماسك وطني الحبيب، دون التفات لشعارات تُرفع أو خطابات تسوّق أو دسائس تثار، فكل الأسوياء في الأرض يعشقون أوطانهم ويتباهون بمنجزها ويذودون عنها وعن رموزها بالنفس والنفيس، والمُنبتّ لا يمكن أن يوثّق صلتك بوطنك حتى وإنْ نسب نفسه لله. علماً بأن الوطن ليس نعيماً دائماً إلا أنه لا يمكن أن يكون جحيماً.
كاتب سعودي
Al_ARobai@