مع انتشار المقاهي بصورتها الجديدة، وتحديداً تلك المقاهي التي تنتمي إلى طبقة اجتماعية تظهر في أول الأمر أنها الطبقة البرجوازية إلا أنك بالتعمق في وضعية المرتادين لن تبتعد عن الطبقة المتوسطة، فالمتغيرات هي في ما يقدم من مشروبات، وبعضها ازدان بأنواع من الكتب كنوع من التميز، وهذا الوضع المتجدد نفى عن المقهى الصفة الذميمة التي كان أهالينا يمنعوننا منعاً باتاً من الوصول إليها، وفي هذا كنت قد كتبت مقالاً بعنوان (سمعة المقهى السيئة) حين أشرت إلى أن الثقافة الاجتماعية تشير في أحيان كثيرة إلى نمط سلوكي معين -بغض النظر عن صحته- والثقافة الاجتماعية في السعودية ظلت تقف موقفين متباينين من المقهى؛ فهناك فئة تنظر إلى المقهى نظرة ازدراء واحتقار لرواده وارتباط المرتادين لهذا الموقع بالطبقات الدنيا والمنحرفين سلوكياً، وهذه النظرة تتسع دائرتها حتى تصل إلى أغلب المدن والقرى، هذه النظرة ربما كان جذرها الذي تستند عليه تحريم التدخين ولكون المقهى يقدم (الشيشة) وأغلب المرتادين له من المدخنين اكتسب الموقع تحريماً يوازي تحريم ما يتم تعاطيه داخله، إضافة إلى بقاء إرث سابق من التحريم للشاي والقهوة، وإذا أضفنا أن أولئك الذين ينعتون بالمنحرفين كانوا يرتادون المقهى بصورة دائمة ومستمرة تصل -في أحيان- أن البعض كان مقيماً داخل المقهى (والمبيت داخل المقهى كان يقوم بدور الفنادق، ففي زمن لم تكن الفنادق متواجدة بصورة تعني توافد الناس إليه كموقع للمبيت كان المقهى يقوم بهذا الدور حيث ينزل به المسافرون أو مقطوعو الأهل أو أولئك الذين لا يجدون مالاً يسعفهم لاستئجار بيت يمنعهم من البقاء داخل المقهى).
وظل موقع المقهى مرتبطاً بالمنحرفين والغرباء ومن ليس له أهل وبقى بعيداً عن إقبال الكثير من أفراد المجتمع الذين يبحثون عن سمعة نظيفة تبعدهم عن اللوم أو اتهامهم بما يكرهون، هذا التفكير أخذ يتزحزح مع السنوات لتتسع فئة المدخنين ورواد المقهى مكونين نظرة حاولت من البدء الانفكاك من أسر أحكام المجتمع الجاهزة وأخذت تتعامل مع المقهى كموقع لتطييب المزاج وشرب الشاي وتبادل الأحاديث.
والمجتمع الحجازي يختلف عن بقية المناطق في المملكة، حيث وُجد نمط سلوكي في حياة الناس حيث كان من مناشطهم اليومية لتبادل الأحاديث وشؤون الحي الجلوس بالمركاز ويتبادلون فيه أخبار الأدب (وهذا المكان يسمى المركاز وجمعه مراكيز)، والمركاز عبارة عن أرائك ترص على شكل مستطيل مفتوح من الجهة التي تقابل صدر المجلس وفي الصدر يجلس الأكثر تميزاً في المجموعة.
وقد لعب المركاز أهمية اجتماعية وثقافية في فترات مبكرة من حياة المجتمع الحجازي (في مكة وجدة على سبيل المثال)..
ومع التغيرات السريعة غاب المركاز وظل محصوراً في أماكن معينة ومحدودة، ومع وجود المركاز لم يكن المقهى غائباً بل كان يتواجد بسمعة سيئة (عند البعض)..
وأخذ المقهى يتشكل ويكتسب وجوداً تدريجياً بدأ بالتسامح مع كبار السن في دخول المقهى وانتهى بقبول تواجد الجميع في هذا المكان (وتبرز الآن مجموعات حديثة السن داخل المقهى متعاطية الشيشة والتدخين من غير تحرز كما كان يحدث سابقاً، بل وغدا المقهى متنفساً أساسياً لمعظم الشباب في غياب الأماكن الأخرى التي تستقبلهم أو تقبل بتواجدهم كما يتفضل عليهم المقهى).
ومن المقاهي الشهيرة في استقبال المثقفين بمدينة جدة سابقاً وقبل أن تقفل وينتهي أثرها مقهى الأبراج (وهو مقهى أرستقراطي كان يقع على شاطئ الحمراء) وتتوافد على هذا المقهى مجموعة كبيرة من الأدباء والإعلاميين والرياضيين والفنانين التشكيليين والشعراء الشعبين وغدا هذا المقهى ملتقى كثير من الكتاب لقربه من نادي جدة الأدبي (ولما للمقهى من سمعة سيئة يصبح ذكر مرتادي هذا المقهى محرجاً لمرتاديه).
وكان هناك مقهى الحزام وهو مقهى يقع بين مجموعة ورش صناعية كانت ترتاده مجموعة من الكتّاب الشباب في جلسة أسبوعية لتداول الآراء في الجوانب الثقافية والأدبية.
وهناك مقهى يقع على الشاطئ ترتاده قلة من الشباب وخاصة المهتمين بالشعر الشعبي.
وهناك مقهى المها يقع بالمدينة الصناعية يرتاده الفنانون التشكيليون. وتتناثر المقاهي في المدينة الصناعية (بعد أن تم إخراج المقاهي من داخل الأحياء لسمعتها السيئة) تناثراً يذكرك بالنمو الطفيلي، وكل مقهى له مرتادون معينون ولغياب التواصل الثقافي بين جوانب الحياة الثقافية في السعودية يصبح ارتياد المقهى شللياً (كما هو حادث على الواقع الثقافي)، وغدت كل مجموعة تلتف على بعضها من غير معرفة المجموعات الأخرى بتواجد بعضهم بجوار بعض.
وقد قدمت بحثاً مختصراً عن هذا المكان الجاذب بالرغم من سمعته السيئة.
الحياة تعيد صياغة المجتمعات وفق المتغير إلا أنها لا تبتعد كثيراً عن الصيغة الأولى، وأجد أن من الجماليات الثقافية تزيين ما كان ينظر إليه مكاناً سيئاً إلى وجهة تحاول أن تنتمى إلى طبقية ثقافية أعلى، ولنأخذ مثلاً دور السينما حين كانت في الدرجة السفلى من تقييم المجتمع لمرتاديها.
كاتب سعودي
abdookhal2@yahoo.com
وظل موقع المقهى مرتبطاً بالمنحرفين والغرباء ومن ليس له أهل وبقى بعيداً عن إقبال الكثير من أفراد المجتمع الذين يبحثون عن سمعة نظيفة تبعدهم عن اللوم أو اتهامهم بما يكرهون، هذا التفكير أخذ يتزحزح مع السنوات لتتسع فئة المدخنين ورواد المقهى مكونين نظرة حاولت من البدء الانفكاك من أسر أحكام المجتمع الجاهزة وأخذت تتعامل مع المقهى كموقع لتطييب المزاج وشرب الشاي وتبادل الأحاديث.
والمجتمع الحجازي يختلف عن بقية المناطق في المملكة، حيث وُجد نمط سلوكي في حياة الناس حيث كان من مناشطهم اليومية لتبادل الأحاديث وشؤون الحي الجلوس بالمركاز ويتبادلون فيه أخبار الأدب (وهذا المكان يسمى المركاز وجمعه مراكيز)، والمركاز عبارة عن أرائك ترص على شكل مستطيل مفتوح من الجهة التي تقابل صدر المجلس وفي الصدر يجلس الأكثر تميزاً في المجموعة.
وقد لعب المركاز أهمية اجتماعية وثقافية في فترات مبكرة من حياة المجتمع الحجازي (في مكة وجدة على سبيل المثال)..
ومع التغيرات السريعة غاب المركاز وظل محصوراً في أماكن معينة ومحدودة، ومع وجود المركاز لم يكن المقهى غائباً بل كان يتواجد بسمعة سيئة (عند البعض)..
وأخذ المقهى يتشكل ويكتسب وجوداً تدريجياً بدأ بالتسامح مع كبار السن في دخول المقهى وانتهى بقبول تواجد الجميع في هذا المكان (وتبرز الآن مجموعات حديثة السن داخل المقهى متعاطية الشيشة والتدخين من غير تحرز كما كان يحدث سابقاً، بل وغدا المقهى متنفساً أساسياً لمعظم الشباب في غياب الأماكن الأخرى التي تستقبلهم أو تقبل بتواجدهم كما يتفضل عليهم المقهى).
ومن المقاهي الشهيرة في استقبال المثقفين بمدينة جدة سابقاً وقبل أن تقفل وينتهي أثرها مقهى الأبراج (وهو مقهى أرستقراطي كان يقع على شاطئ الحمراء) وتتوافد على هذا المقهى مجموعة كبيرة من الأدباء والإعلاميين والرياضيين والفنانين التشكيليين والشعراء الشعبين وغدا هذا المقهى ملتقى كثير من الكتاب لقربه من نادي جدة الأدبي (ولما للمقهى من سمعة سيئة يصبح ذكر مرتادي هذا المقهى محرجاً لمرتاديه).
وكان هناك مقهى الحزام وهو مقهى يقع بين مجموعة ورش صناعية كانت ترتاده مجموعة من الكتّاب الشباب في جلسة أسبوعية لتداول الآراء في الجوانب الثقافية والأدبية.
وهناك مقهى يقع على الشاطئ ترتاده قلة من الشباب وخاصة المهتمين بالشعر الشعبي.
وهناك مقهى المها يقع بالمدينة الصناعية يرتاده الفنانون التشكيليون. وتتناثر المقاهي في المدينة الصناعية (بعد أن تم إخراج المقاهي من داخل الأحياء لسمعتها السيئة) تناثراً يذكرك بالنمو الطفيلي، وكل مقهى له مرتادون معينون ولغياب التواصل الثقافي بين جوانب الحياة الثقافية في السعودية يصبح ارتياد المقهى شللياً (كما هو حادث على الواقع الثقافي)، وغدت كل مجموعة تلتف على بعضها من غير معرفة المجموعات الأخرى بتواجد بعضهم بجوار بعض.
وقد قدمت بحثاً مختصراً عن هذا المكان الجاذب بالرغم من سمعته السيئة.
الحياة تعيد صياغة المجتمعات وفق المتغير إلا أنها لا تبتعد كثيراً عن الصيغة الأولى، وأجد أن من الجماليات الثقافية تزيين ما كان ينظر إليه مكاناً سيئاً إلى وجهة تحاول أن تنتمى إلى طبقية ثقافية أعلى، ولنأخذ مثلاً دور السينما حين كانت في الدرجة السفلى من تقييم المجتمع لمرتاديها.
كاتب سعودي
abdookhal2@yahoo.com