زرت (تونس) قبل الجائحة. مدينة الثقافة والحضارة، والنضارة، والتاريخ العريق الممزوج بالأسطورة، والحدوتة المبهجة أحياناً، والحزينة أحياناً.
ذهبت في رحلتي الأخيرة مع الشريف «ناصر منصور البركاتي» إنسان من أولئك الذين يحرثون الصباح كي تشرق الشمس، ويكتبون للريح كي يزهر الحدس.
رجل لا شبيه له سوى وردة الجوار، وطيور تتجمع في باحة القلب. هو شمس المساكين التي لا تحسن الانحناء. رجل لا يصفه الكلام. هذا الرجل أعاد اكتشاف حواسي، وأضاف إلى حواسي الخمس ألف حاسة للحب. في مساء أحد الأيام، والسحب تملأ الفضاء وتمتزج الخيوط الأرجوانية بالسماء الزرقاء، لترسم لوحة بديعة.. اصطحبنا دليلنا السياحي الحبيب «علي يحيى محرق» إلى مطعم كوردة مسجاة على طرف حديقة لا تشكو عطش تربة زرعت فيها. يطل المطعم ومن ارتفاع شاهق على (تونس) الخضراء، كان معنا خليلي التوأم «نجيب عصام يماني» الصديق الذي ينشدُّ الظهر به. كان المطر يهطل في الخارج، فكرة تساقط المطر وحدها تُحيي القلب وتجعل منها مناسبة. كانت المطربة التونسية «أمينة فاخت» تشدو بصوتها (الهسكي) مع العملاق «الهادي دنيا» بصوته العميق أغنية (على الجبين عصابة) أغنية تتسرب إلى مسمعي لأول مرة.. هناك بعض الأغاني تشبه الصاعقة، تلمع أمامك حين غرة، وقبل أن تدرك نفسك تحط عليك فلا تستطيع فكاكاً منها. أدهشني اللحن البهيج، رغم الانكسار والحزن الذي يزدحم به الكلام.
ما إن انتهت الأغنية، حتى تأكدت من النادل أن وراء هذه الأغنية الفاتنة حكاية.
ولأن ما ترجوه في الليل، يدق بابك أحياناً صباحا. فقد وجدت ضالتي في إحدى الصحف المحلية، التي كتبت حكاية تلك الأغنية ولعذوبة القصة أنقلها لكم: الأغنية من تراث الجنوب التونسي، تعود للقرن (١٩).. تراث (جربي) تحديداً، يمثل قصة شاب تمدد الفقر في حياته كرف طويل في مكتبة مهجورة، من أولئك الذين موقعهم دائما تحت عجلات قطار الحياة لا فوقها. وجد الرأفة في قلب رجلٍ مسن من (جربة) توفيت زوجته وتركت له ابنة، ولم يرزق بصبي، عرفه الناس كأعبق خلطة نقية من الدقيق والريحان. يحملُ الخبز البلدي في زوادة الروح للفقير، ويعرش على كتفيه سنبلتين من قمح قديم للسائل والمحروم. رجل مهنته الرئيسية في الحياة مساعدة البشر على العبور فوق حقل الأشواك، للوصول إلى حضن الرمال الناعمة.
كان الشاب يجلس عند عتبة الدار أو في الحديقة الخلفية يراقب الابنة، وهي تُعد الطعام، أو ترتق الثياب، أو تقش أوراق الشجر، والحشف البالي من على الأرض. أخذ هواها يجري في دمه مجرى الدم في العروق. فقد كانت امرأة حسناء، ولكنها بالطبع ليست أي امرأة، كانت فسيفساء تونسية بصورة غزال أكحل.
فتاة ذات جمال باهر، وقعت هي الأخرى في أسر هواه، ولم تتخيل أن يكون لامرأة سواها. بعد فترة من الزمن مرض الشيخ ولزم الفراش، وطلب من الشاب أن يكون مسؤولا عن البيت وحارسه. اتفق الاثنان على أن ينتظرا ذهاب السقم عن الشيخ ليطلبا الوصال. لكن الداء استقوى على الشيخ، وأحس برهبة أن يترك ابنته وحيدة، فقرر فجأة أن يزوجها من ابن عمها. وطلب إقامة الأفراح في الحال. أرهق القرار روحهيما، وحولها إلى شوك، لا ورقة أمل فيه. غير أنه لم يكن بيدهما حيلة سوى القبول بالأمر.
في مساء ربيعي عاطر من أيام (جربة) حيث قرص الشمس يحمر متوارياً خلف التلال، ورائحة زهور اللوز، والمشمش، والورد الجوري، تنتشر في الفضاء تاركةً رياحاً أقرب إلى ريح الجنة، تم الزفاف، وظهرت العروس فوق الخيل، ترتدي «بيلساناً» من الحرير الأبيض الذي لا تشوبه شائبة. وقد عقصت شعرها الغزير في موجات على نحو الأعلى، وثبتت بينها مشطا عاجيا على هيئة طاووس. مما أفصح عن لون آسر، بين بياض كتفها حيث يطلع العنق من الخلف. وربطت رأسها بالمحارم، لإسكاتِ ألم رأسها من كُثرة البكاء. وهذه المحارم يقال لها بالتونسي (عصابة).
كان الشاب يشدو بكلمات الأغنية (على الجبين عصابة) أي ربطة فوق الجبين.. يا دايرة.. أي يا من تضعين على الجبين رباطاً.. الفم يضحك، والجبين غضابة. الفم باسم وضاحك، بما يليق بعروس تُحمل على الخيل، وتزف إلى عريسها، ولكن العيون غاضبة. كان ينشدها على إيقاع الطبل والمزمار البلدي. لتنتشر بعد ذلك، وتصبح واحدة من أشهر الأغاني الشعبية التي تَغنى بها الملايين في المغرب العربي أغنية تمثل: أسى الحب الذي يملكه السعداء، ويشتهيهِ الأشقياء. السعيد يصير شقياً بالهجر.. والشقي يغدو سعيداً بالوصال..!!
كاتب سعودي
Fouad5azab@gmail.com
ذهبت في رحلتي الأخيرة مع الشريف «ناصر منصور البركاتي» إنسان من أولئك الذين يحرثون الصباح كي تشرق الشمس، ويكتبون للريح كي يزهر الحدس.
رجل لا شبيه له سوى وردة الجوار، وطيور تتجمع في باحة القلب. هو شمس المساكين التي لا تحسن الانحناء. رجل لا يصفه الكلام. هذا الرجل أعاد اكتشاف حواسي، وأضاف إلى حواسي الخمس ألف حاسة للحب. في مساء أحد الأيام، والسحب تملأ الفضاء وتمتزج الخيوط الأرجوانية بالسماء الزرقاء، لترسم لوحة بديعة.. اصطحبنا دليلنا السياحي الحبيب «علي يحيى محرق» إلى مطعم كوردة مسجاة على طرف حديقة لا تشكو عطش تربة زرعت فيها. يطل المطعم ومن ارتفاع شاهق على (تونس) الخضراء، كان معنا خليلي التوأم «نجيب عصام يماني» الصديق الذي ينشدُّ الظهر به. كان المطر يهطل في الخارج، فكرة تساقط المطر وحدها تُحيي القلب وتجعل منها مناسبة. كانت المطربة التونسية «أمينة فاخت» تشدو بصوتها (الهسكي) مع العملاق «الهادي دنيا» بصوته العميق أغنية (على الجبين عصابة) أغنية تتسرب إلى مسمعي لأول مرة.. هناك بعض الأغاني تشبه الصاعقة، تلمع أمامك حين غرة، وقبل أن تدرك نفسك تحط عليك فلا تستطيع فكاكاً منها. أدهشني اللحن البهيج، رغم الانكسار والحزن الذي يزدحم به الكلام.
ما إن انتهت الأغنية، حتى تأكدت من النادل أن وراء هذه الأغنية الفاتنة حكاية.
ولأن ما ترجوه في الليل، يدق بابك أحياناً صباحا. فقد وجدت ضالتي في إحدى الصحف المحلية، التي كتبت حكاية تلك الأغنية ولعذوبة القصة أنقلها لكم: الأغنية من تراث الجنوب التونسي، تعود للقرن (١٩).. تراث (جربي) تحديداً، يمثل قصة شاب تمدد الفقر في حياته كرف طويل في مكتبة مهجورة، من أولئك الذين موقعهم دائما تحت عجلات قطار الحياة لا فوقها. وجد الرأفة في قلب رجلٍ مسن من (جربة) توفيت زوجته وتركت له ابنة، ولم يرزق بصبي، عرفه الناس كأعبق خلطة نقية من الدقيق والريحان. يحملُ الخبز البلدي في زوادة الروح للفقير، ويعرش على كتفيه سنبلتين من قمح قديم للسائل والمحروم. رجل مهنته الرئيسية في الحياة مساعدة البشر على العبور فوق حقل الأشواك، للوصول إلى حضن الرمال الناعمة.
كان الشاب يجلس عند عتبة الدار أو في الحديقة الخلفية يراقب الابنة، وهي تُعد الطعام، أو ترتق الثياب، أو تقش أوراق الشجر، والحشف البالي من على الأرض. أخذ هواها يجري في دمه مجرى الدم في العروق. فقد كانت امرأة حسناء، ولكنها بالطبع ليست أي امرأة، كانت فسيفساء تونسية بصورة غزال أكحل.
فتاة ذات جمال باهر، وقعت هي الأخرى في أسر هواه، ولم تتخيل أن يكون لامرأة سواها. بعد فترة من الزمن مرض الشيخ ولزم الفراش، وطلب من الشاب أن يكون مسؤولا عن البيت وحارسه. اتفق الاثنان على أن ينتظرا ذهاب السقم عن الشيخ ليطلبا الوصال. لكن الداء استقوى على الشيخ، وأحس برهبة أن يترك ابنته وحيدة، فقرر فجأة أن يزوجها من ابن عمها. وطلب إقامة الأفراح في الحال. أرهق القرار روحهيما، وحولها إلى شوك، لا ورقة أمل فيه. غير أنه لم يكن بيدهما حيلة سوى القبول بالأمر.
في مساء ربيعي عاطر من أيام (جربة) حيث قرص الشمس يحمر متوارياً خلف التلال، ورائحة زهور اللوز، والمشمش، والورد الجوري، تنتشر في الفضاء تاركةً رياحاً أقرب إلى ريح الجنة، تم الزفاف، وظهرت العروس فوق الخيل، ترتدي «بيلساناً» من الحرير الأبيض الذي لا تشوبه شائبة. وقد عقصت شعرها الغزير في موجات على نحو الأعلى، وثبتت بينها مشطا عاجيا على هيئة طاووس. مما أفصح عن لون آسر، بين بياض كتفها حيث يطلع العنق من الخلف. وربطت رأسها بالمحارم، لإسكاتِ ألم رأسها من كُثرة البكاء. وهذه المحارم يقال لها بالتونسي (عصابة).
كان الشاب يشدو بكلمات الأغنية (على الجبين عصابة) أي ربطة فوق الجبين.. يا دايرة.. أي يا من تضعين على الجبين رباطاً.. الفم يضحك، والجبين غضابة. الفم باسم وضاحك، بما يليق بعروس تُحمل على الخيل، وتزف إلى عريسها، ولكن العيون غاضبة. كان ينشدها على إيقاع الطبل والمزمار البلدي. لتنتشر بعد ذلك، وتصبح واحدة من أشهر الأغاني الشعبية التي تَغنى بها الملايين في المغرب العربي أغنية تمثل: أسى الحب الذي يملكه السعداء، ويشتهيهِ الأشقياء. السعيد يصير شقياً بالهجر.. والشقي يغدو سعيداً بالوصال..!!
كاتب سعودي
Fouad5azab@gmail.com