-A +A
علي بن محمد الرباعي
في زمن الصحوة، قرر أحد معارفي زيارة أخته المتزوجة من رمز صحوي في قرية جبلية، وتفاجأ عندما اقترب من البيت، ببابه مفتوح، والصراخ يتعالى. دخل فاستهال مما رأى، وصدمه المشهد التراجيدي، فالصهر يضرب زوجته، أخت الزائر، ووالد الصهر الثمانيني يحطّم أغراض مطبخها ويلقي بها يمنة ويسرة، ويردد؛ زدها، زدها، صدق الله (واضربوهن) مشجعاً ومغرياً ابنه بالتطاول على شريكة الفاقة، ورفيقة الزمن الشحيح، ومُشرّعناً قسوته بالدليل.

قال ذلك المعرفة؛ وقفتُ صامتاً أمام شخصيتين، تمثلان حقبتين زمنيتين بائستين، وانتابني ألم مصدره أن كلاً منهما يرى نفسه نموذجاً مثالياً للتديّن، وأضاف؛ خرجتُ متحسراً كوني لم أفزع لأختي بأدنى مواساة، ولم أنجح في الاحتجاج على وحشية الأرحام ولو بمفردة (عيب).


فيما حدّثني أحد الأصدقاء العرب عن زميل له كان أيام الجامعة (دنجواناً)، مُسرفاً في العلاقات العاطفية المرفوضة شرعاً ونظاماً، وعندما أتيحت له فرصة الالتحاق بركب الصحوة قلب لماضيه الأسود ظهر المجن الأبيض، واستعاض عن مراهقة العشرينات، بنزوة الغرق في أنواع الزيجات، والغريب إصراره على أسلمة (دنجوانيته)، وتبريرها بأنه لم يخرج من دائرة المباح، وعندما رأى صورة (أم زميله الثمانينية) في حالة الواتساب غضب منه وقال: وجه المرأة عورة، احذف صورة أمك، واتق الله وإلا هذا فراق بيني وبينك!

قدّمتُ نموذجين واقعيين (محلياً وعربياً) ليكونا مدخلاً لتناول قضية المرأة الشاكية (الشائكة)، علماً بأن القصتين السابقتين لا تخرجان عن إطار الفردية، ولا يجوز أن نصدر حكماً كلياً على الجزئيات، وينبغي التفريق بين المسلم والإسلام، وبين الأفراد وبين المنظومات الاجتماعية، علماً بأن حالات التجاوزات تكشف لنا أمرين: الثقافة السائدة وأثرها على المجتمع، وحاجة الشعوب إلى النظام والقوانين المُلزمة باحترام إنسانية الإنسان.

طرح المُفكرون والفلاسفة والتنويريون منذ زمن سؤالاً يتوالد «أيهما أكثر انصافاً للمرأة، الأديان، أم الحضارات، السلف أم الخلف»؟ وللإجابة عن السؤال يلزمنا العودة لتتبع النصوص المقدّسة في الشرائع والديانات كافة، ورصد النقوش والآثار، والمقاربة العملية مع سيرة ومسيرة المرأة، لاستطلاع أبرز ملامح المواقف والمخاطبات.

ولا ريب أن بعض الباحثين سوّلت له ثقافته، سن يراع النقد فلم يقتصد في تعرية نصوص تراثية لم تخلُ من حدة نظرتها للمرأة، وتقليل شأنها، وتقزيم حضورها، وبخس تقييمها وقيمتها، انطلاقاً من تحميلها مسؤولية الخطيئة الأولى، وادعاء البعض عليها تسببها بإخراج أبينا آدم من الجنة، مروراً بأوصاف يطلقها متخلفون استناداً لمرويات ومأثورات لم تخلُ من تأطيرها بالنقص والدونية، ونعتها بما يجافي الطهارة والوفاء والأمانة، وليس انتهاء بالتوسع في فهم آية ورد فيها الأمر بالضرب عند النشوز.

وبمقارنة القرآن بما سبقه من كتب مقدسة، تتجلى أنسنة قواعد خاتم الكتب بتأصيله التكافؤ بين الرجل والمرأة عدا في الميراث، والتساوي في التكاليف، ونصه على أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.

فيما مال بعض الدارسين الأنثروبولوجيين لمثالية الأمم المتحضرة، فأشاد بحضارات مكّنت شقائق الرجال، وسوّدتهن، وسمّت ممالك بأسمائهن، ونقشت صورهن على العملات وفي القصور والمعابد والكهوف والصخور العملاقة، بما يوحي بمنهجية التخليد.

ولا يخلو التصور عن المرأة من إشكالية، انطلقت شرارتها من نمطية النظرة التاريخية للذهنية العربية الشهوانية، المهووسة باستضعاف الآخر، والمأزومة بأدلجة تمرر العنف في زي اللطف، وتقارن صورة المرأة بصورة الأَمَة، والجارية، وأم الولد، وتتعامل معها بتطبيق حرفية أدبيات متوارثة دون فحص ولا محاولة فهم سياق ولا قبول تأويل ولا أخذ بأسباب نزول، بل قد يعتقد البعض أنه يتعبد الله بالإساءة لأم أو بنت أو زوجة أو أخت أو عمة أو خالة بحكم فهمه المغلوط لنص تراثي، يسوّغ به قطيعة الرحم، علماً بأن نزعة الأديان مهذِّبة، وراقية في أصلها النقي.

بالطبع لو تعقّبنا المراحل التاريخية للمجتمعات العربية لوجدنا أن العلاقة بالمرأة يكتنفها سوء فهم وسوء تعبير وتباين بين مجتمع وآخر وحقبة وأخرى، فإسهام المرأة في البادية ليس مثل دورها في الحاضرة. ومنجزها في مجتمع الإنتاج لا يُقارن ببطالتها في مجتمع الاستهلاك.

كل مرحلة لها رأي ورؤية وممارسة، وربما ادعى كل طرف أنه الأميز في تعامله مع جزء من كينونته، فيركن لتمجيد نفسه وتلميع صورته، إلا أن المسير البشري اعتورته أخطاء وخطايا في حق مكوناته، وتضافرت قوى مجتمعية وسلطوية على تهميش النساء، وتجاسرت ثقافات على ممارسة القمع بحق حواء، حتى حانت الفرص لتنامي الوعي السوي، وتبيئة القِيم، ونشوء دولة القانون، ما كفل استعادة مكانتها الأولى باعتبارها إنساناً.

لم يُدرك البعض خطورة الإيحاء للنساء بأنهن ضعيفات وتكريس ذلك بفوقية ذكورية ما عزّز إضعاف قدراتها وفقدانها الثقة في ذاتها، لتخضع لإرادة ذَكَر يسلبها إرادتها. وهل من حفظ الإنسان وتكريمه سلبه كرامته؟

لا ريب أن تديّن المرأة مفخرة لها، وليس من عاقل يعيب على مسلمة التزامها بأركان وأخلاق دينها، إلا أن توظيف الدِّين للنيل من كرامة المرأة وإنسانيتها وعقلها وحقوقها مجانب لصحيح العقل وصريح النقل، وما نعيشه اليوم في بلادنا ليس انقلاباً على الماضي ولا قلباً للطاولة بل إعادة الأشياء إلى طبيعتها، فتمكين المرأة في عصرنا السعودي الزاهر والتعامل مع النساء بأرقى ما قدمته الأديان والحضارات والفطر السوية تصحيح لمسار تباطأ تصحيحه لبعض الوقت.

تمكين المرأة في عهد الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد جمع ما بين كمال الإسلام المساوي بين الرجل والمرأة في الواجبات، وجمال الحضارات المانح لكليهما الحقوق، ولا اعتداد بمن صوّروا لنا نيل المرأة حقوقها وتمكينها المجتمعي، بالمؤامرة والمكيدة والتغريب، كونهم لا يعتدّون بمقاصد الشرع، ومتعامين عن منجز الحضارات.

كاتب سعودي

Al_ARobai@