-A +A
طلال صالح بنان
ماذا تريد الشعوب وإلى ماذا تتطلع الدول. أسئلة شكلت محور علم السياسة واهتمامات تطوير نظرية سياسية عامة تفسر سلوك الفرد وتصرف الدول، مع مقدرة استشرافية على توقع الحراك السياسي، في علاقات الصراع والتعاون، محلياً وإقليمياً ودولياً.

الأولية في نشوء المجتمعات وقيام الدول للحرية.. أم المساواة، أم للأمن. هل هذه مسألة أولويات، أم هي خيارات. نشأت الأفكار السياسية الحديثة، التي أُطلق عليها أيديولوجيات، لتفسير مبررات قيام الدولة القومية الحديثة، بدايةً من عصر النهضة إلى الآن، مروراً بمخاضٍ عسيرٍ على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، من ثوراتٍ.. وحروبٍ.. وحملات استعمارية.. وأزماتٍ اقتصادية.. وتعقيدات ثقافية.. وخلفيات دينية وطائفية، بحثاً عن شرعية مستقرة للأنظمة السياسية.


وإن كانت مثل هذه الشرعية السياسية «العلمانية» تتطلب الاعتراف بمثل هذه التعددية المعقدة، إلا أنها لابد لها أن تصطدم بمعضلة المفاضلة بين الأنظمة السياسية، في قدرتها على تجاوز عقبات الخيار الصعب.

الليبراليون يميلون، كل الميل، للحريات الفردية، حتى ممارسة السلوكيات الفردية الشاذة، لدرجةِ التعدي على الفطرة البشرية، نفسها. كما كانت الليبرالية، متطرفة في تحيزها للحرية الفردية، جاءت الشيوعية بتأكيدها على متغير المساواة بالزعم: أنه لن تكون هناك حرية حقيقية للفرد، عندما يُترك الحبلُ على غاربِهِ للملكية الخاصة (رأس المال)، بعيداً عن أي رقابة وحساب، بل وحتى توجيه.

ليأتي الاشتراكيون، الذين يسمون بالديمقراطيين الاجتماعيين، بحلولٍ «وسطية» للتوفيقِ بين الحريةِ والمساواة، بالتأكيدِ على الحريةِ الفرديةِ مع إعطاءِ الدولةِ دوراً مركزياً في العمليةِ الاقتصادية، بغرضِ تحقيقِ قدرٍ من المساواةِ الاقتصادية، دون ما مساسٍ كبيرٍ بحقِ الملكية الخاصة، عن طريق تطوير وظيفة اجتماعية للنظام السياسي.

لكن هل يعني مثل هذا الخَيَار الاجتماعي احتمالية تغَوِلِ النظام السياسي، بما يمكن أن تتطور معه معضلةٌ أمنية، تكون أشد خطراً على الحرية الفردية من محاولة أخذ متغير المساواة في الحسبان. الليبراليون يجادلون: مجرد السماح للنظام السياسي، بحجة تحقيق المساواة، التدخل في العملية الاقتصادية سيقود، مع الوقت، لا إلى التعدي على حق الملكية الخاصة، فقط... بل أيضاً على باقي الحريات الفردية الأخرى.

ثم ما الذي يضمن أن التدخل في العملية الاقتصادية سيقتصر على تحقيق المساواة. أليس من المحتمل أن يتمادى النظام السياسي، بحجة السعي لتحقيق المساواة، أن يركز على أمنه الذاتي وبقائه في السلطة، فيحدث المحظور وتتم المساومة على استقرار المجتمع، ليعود الجميع إلى حالة الطبيعة الأولى، حيث لا دولة ولا سلطة ولا قانون، لينتصر خيارُ الأيديولوجيةِ الفوضوية.

هناك دوماً خيطٌ رفيعٌ يربط بين الحرية الفردية والمساواة الاجتماعية. الخوف هنا ليس من انقطاع هذا الخيط بفعلِ حركة الجذب والشد بين طرفيه، لكن من الفتيل المشتعل بالقرب من هذا الخيط، الذي تسببه الخشيةُ من تغولِ النظام السياسي نفسه، للبقاء في السلطة وتكريس شرعية سياسية ذاتية خاصة، بعيداً عن الإرادة العامة.

هاجس الأمن هو المعضل الرئيس في تطور المجتمعات الحديثة. عند تغليب الأمن لن تكون هناك حرية ولا مساواة، وبالتبعية: يُفتقد الاستقرار.. وتتآكل الشرعية.