-A +A
فؤاد مصطفى عزب
كنت دائما أحب المطارات.. أحس فيها بطعم الغربة، وعتبات الدهشة الأولى حين أسافر ورائحة الوطن، والأحلام التي تنام على أرصفة الوقت حين أعود. وكنت أحاول دائما في تلك اللحظات التي تزحف بطيئة فوق الصالات الباردة أن أفك لغتها السرية، التي لا تمنحها للعابرين، وأنا أحتسي آخر فنجان قهوة. وربما ضحكت وأنا أستعيد فيلم The terminal، حينما وجد «توم هانكس» نفسه مُحاصراً داخل أحد المطارات الأمريكية، لا يستطيع أن يدخل أمريكا ليجمع آخر تذكارات أبيه الراحل، ولا يستطيع أن يعود إلى بلده، الذي وقع فيه انقلاب. فقرر أن يُعيد صياغة ذلك العالم العابر في لحظة عابرة، ليعيش واقعه وعالمه هو. كانت ولا تزال المطارات مجرد نقطة تسكن روحك، وتتقافز فوق ملابسك.. وعالم لم يفتح بواباته المطلسمة بعد، أو ربما في وقت ما.. أو حلم ما.. قد منحك جزءاً من عشائه الأخير، على مقاهي المساء الفارغة، أو في آخر العربات العابرة نحو النهار. في رحلتي الأخيرة من (جدة) إلى (الرياض) حين وضعت قدمي المتعبة داخل صالة المغادرة، كرهت المطار والسفر والدنيا كلها. وجدت كل المأثورات الشعبية التي ابتدعها إخواننا المصريون تتقافز إلى ذهني فجأة. بداية من حكمة الست (وردة): «خليك هنا خليك وبلاش تفارق وتتبهدل..») إلى «من خرج من داره إتقل مقداره» وحتى الحكمة الشهيرة «إذا دخلت المطار.. فاعمل نفسك حمار.. حتى تأمن شر مرض القلب والمنظار» هذه ليست صالة مطار، بل مضمار لسباق الخيل، غاب عن الجهابذة المصممين والمنفذين تخصيص كم عربة (توك توك) حتى تطلع الصورة حلوة!!

أشعر وكأنني دخلت إحدى ألعاب الفيديو المعقدة، حيث الطرقات الثعبانية، وحيث كل طريق أطول من شارع (الملك). منذ اللحظة الأولى لدخولك تلك المتاهة لا بد أن ترفع شعار (المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين). ويبدو أن الموظفين الذين تعودوا مشاهدة انتهاء اللياقة لدى المسافرين تحولوا إلى كائنات مبرمجة، ترد عليك بآلية شديدة: «تابع السير يا بطل.. لم يتبق من المشوار إلا القليل». ثم ينصرفون من أمامك سريعاً..


وبعد أن ينفخ الله في صورتك، ويشد من أزرك، تصل إلى المدخل المخصص للسفر، تبدأ في الترنح، ثم تتكوم على

نفسك من التعب. قال لي رجل يجلس بجواري، عندما شاهد عجوزاً على أحد المقاعد المتحركة: «أنقذته العصايا

التي في يده من المشوار والبهذلة». قلت له: فعلاً ولا عصايا سيدنا «موسى»، لو الواحد كان عنده خبر (بالمقلب) كان قطع فرع شجرة من الطريق وعمل فيها عم «أيوب». فكرت بيني وبين نفسي في العودة أرمي نفسي على الأرض، وأنا أصيح: قلبي.. قلبي.. فعلا.. آه يا قلبي على الرقم الفلكي للمليارات التي صرفت على هذا المطار.. في تصوركم حكاية (التوك توك).. تحل المشكلة..؟!!