-A +A
منى المالكي
أثناء القصف النازي على بريطانيا بين أيلول/‏ سبتمبر 1940 وأيار/ ‏مايو 1941، أنشأ رئيس الحكومة البريطانية ونستون تشرشل «مجلس تشجيع الثقافة والفنون» لئلا ينسى الشعب البريطاني الثقافة أثناء الحرب، ووضع له شعارا: «الأفضل عدد (The Best fo لأكبر r the Most) وأوكل رئاسته إلى عالم الاقتصاد السياسي جون كينز. ومن هنا خطط تشرشل وكينز مستقبل بريطانيا الاقتصادي والسياسي.

وحين تسلم الجنرال الفرنسي ديغول، وهو كاتب عظيم، رئاسة فرنسا، طلب من رفاقه الراغبين في العمل السياسي أن «يقرأوا كتبا ويكتبوا مؤلفات ويصنعوا مستقبل الأمة الفرنسية». أما نابوليون فكتب روايات ورسائل أدبية ووضع مذكراته في منفاه. والإسكندر المقدوني كان يحتفظ بـ«إلياذة هوميروس» ملحمة الإغريق الشهيرة وهو يخوض الحروب، ومن أساطيرها يستمد العزم والمعنويات. هكذا كانت تصنع الثقافة السياسة والاقتصاد رافدي الحياة وصناعة الحضارة.


وهكذا كان لبنان فلم تكن له تلك الأهمية إلا عبر أدبائه وشعرائه وفنونه الجميلة ترافقاً مع الإرث التاريخي الكبير له وغناه بتعدّد الحضارات والثقافات المتعاقبة. لبنان «بلد الأبجدية»، حيث تعد مدينة «جبيل» من أقدم المدن المسكونة في العالم واشتهرت بالأبجدية الفينيقية، التي صدرتها للعالم، وفي العصر الحديث كان جبران خليل جبران، سعيد عقل، والرحابنة، وغيرهم ممّن امتهنوا الالتزام الأدبي والمسرحي، من الذين قادوا الفكر الحديث بما قدّموه من فنون جميلة ونتاج شعريّ وأدبيّ، وموسيقى ومسرح وبما توفّر للبنان في القرن التاسع عشر، من مطابع ومعاهد ومكتبات من جهة، ولانفتاحه على أوروبا من جهة أخرى. وهذه الظاهرة امتدت إلى القرن العشرين، وهذا ما جعل من لبنان واحةً لمثقّفي العرب، وجذب المثقفين العرب إليه، ولم يفقد هذه الخاصية حتى في ظلّ الحروب، والأزمات.

أثبتت التجربة اللبنانية أنه كلما تراجعت الثقافة في لبنان صار لبنان بلد الآخرين. وكلما ارتفع مستواها ساد الرقي والديمقراطية. الولاء للبنان يمر في الولاء للثقافة. هذه حقيقة لا بد أن يفهمها جيداً اللبنانيون! يعيش لبنان كابوسا أدمنت فيه على المخدرات ففقدت بلد الأبجدية وعيها وحرفها وثقافتها! فأضحت تتحرك سياسيا على القاعدة «الاثني عشرية» كل يوم بيومه، وكل يوم وصفقته مع الشيطان يراهن عليه، وكل يوم ونحن نصدح مع فيروز «كيفك انت»!

عندما تخلت لبنان عن عباءة الثقافة وارتدت السواد، وضربت على صدرها عويلا وبكاء على خرافات من زمن لا يشبه زمن ميخائيل نعيمة ومي زيادة، وسلمت إرادتها إلى مجموعة من اللصوص، فقدت سويسرا الشرق بوصلتها! وأعلن المرفأ في انفجاره إعلاناً صريحاً لموت كل جميل في بلد الجمال فصاح صوت نشاز يكيل السباب والشتائم للجميع عوضاً عن أن ينتج أغنية أو يكتب مسرحية أو يطبع رواية! قدر لبنان الأجمل أن يبقى واحة للثقافة! فقدت لبنان هويتها الثقافية ومات حارسها الأجمل (الثقافة) فانزوت تتبع كل ناعق حتى تحولت شجرة الأرز شجرة الخلود إلى شجرة الزقوم! فهل حان للبنان أن يستيقظ أم أن الرهان أن يموت للأبد!