-A +A
طلال صالح بنان
في وقتنا الحاضر، صعب تصور إصدار أحكام قضائية، خارج ظروف خلفية قضاياها السياسية. وإذا ما أضفنا تدخل متغير الإعلام وما قد يتضمنه من إثارة وتعبئة للرأي العام، فإنه من الصعب تحقيق العدالة. العدالة ليست عمياء معصوبة العينين، كما يرغب البعض في تصويرها. بالعكس: العدالة تتمتع بكامل حواسها، التي تستشعر بها الموقف السياسي، من جميع جوانبه.

الأسبوع قبل الماضي أصدرت هيئة المحلفين في مدينة منيابوليس بولاية مينيسوتا الأمريكية، الحكم في قضية مقتل المواطن الأمريكي من الأصول الأفريقية (جورج فلويد)، نتيجة لاستخدام العنف المفرط من قبل الشرطة حين محاولة اعتقاله. أُدين المتهم الأول في القضية الشرطي (ديريك شتيفن)، بجميع التهم الثلاث، بالقتل غير المتعمد، التي أتهمه بها المدعي العام بالولاية، قد تصل عقوبة كل واحدة منها لأربعين سنة من السجن.


رغم كل الاحتياطات التي قامت بها السلطات القضائية لتوفير محاكمة عادلة، بدءاً باختيار هيئة محلفين، تعكس التعددية العرقية والاجتماعية والطبقية للمجتمع، مروراً بالإفراج المؤقت للمتهم بكفالة مالية وتوفير حماية قانونية للدفاع عنه، إلى تحري الشفافية، بجعل المحاكمة علنية وبثها تلفزيونياً، حيةً على الهواء، إلا أنه لا يمكن القول إن المحاكمة تتوفر بها كل متطلبات العدالة المفترضة، لدرجة أن الحكم بالإدانة كان متوقعاً، ولم يكن مفاجأة، إلا في إجماع هيئة المحلفين أن المتهمَ وجد مذنباً في جميع درجات الاتهام الثلاث، التي تقدم بها الادعاء.

القضية حظت بتعاطفٍ غامرٍ من الجمهور مع الضحية، لدرجة عدم توفر أي فرصة لسماع مرافعات الدفاع، التي ركزت على حساسية وخطورة البيئة التي يعمل بها رجال الشرطة، مع تواضع الإمكانات المتوفرة لرجال الشرطة، بالإضافة إلى المرارة، التي يحملها الجمهور ضد رجال الشرطة، بزعم عدم مهنيتهم وجنوحهم إلى العنف المفرط، خاصةً تجاه الأقليات.

لا يمكن التهوين من دور الإعلام، الذي وجد في القضية قصةً إخبارية وحدثاً حياً سُمحَ بتغطيته، على الهواء مباشرةً، تقريباً كان كل الشعب الأمريكي يتابعه من المحيط إلى المحيط، بل العالم، بأسره. كما لا يمكن الاستهانة بالشحن العاطفي، الذي حظي به الضحية، بكل أبعاده العرقية ومظلماته الاجتماعية وتاريخية التمييز العنصري، الذي يلقاه السود والملونون، من مجتمع ذي أغلبية أنجلوساكسونية بروتستنتينية بيضاء. لقد جرت المحاكمة في أجواء مشحونة من قبل جماهير محاصِرة للمحكمة، وأخرى متحفِزة، في أنحاء البلاد لأي طارئ لو أن الحكم جاء بالبراءة.

النخب السياسية في واشنطن كان لها حساباتها، في استثمار الحدث. الرئيس بايدن تمنى أن يصدر الحكم «الصحيح» في هذه القضية،. والكل يعرف ماذا يقصد الرئيس بكلمة (الصحيح) هذه. نوابٌ وشيوخٌ جمهوريون، من جانب آخر، وإن تعاطفوا على استحياء مع الضحية، إلا أنهم اجتهدوا في تقديم المبررات في سلوك الضابط المتهم، وعينهم على دوائرهم الانتخابية.

حكم الإدانة لم يكن بعيداً عن تلك الأجواء والظروف التي صاحبت القضية، منذ ارتكاب الجريمة، وحتى صدور الإدانة الثلاثية للمتهم بارتكابها. العدالة في هذه المحاكمة لم تكن عمياء ولا صماء ولا فاقدةً الحواس.

كانت عدالة يتحكم في قرارها الشارع والإعلام والساسة.