روّت الأم لصغارها قصصاً عن زواجها بأبيهم المتغرّب دوماً بالسفر، والمفتون بالترحال بشاحنته من صنعاء إلى الشام، مروراً بكل الشعاب والأودية، واختتمت الحكايات برويّة «شُطيّر والسعلية»، وعلى ما تولّد في نفوسهم من خوف، نام الجميع ولم يوقظهم في الغد سوى شعاع الشمس المتسلل من فتحة فوق حلق الباب، يتلمّس وجوه أطفال بسطاء وسعداء بمنامات سافرت بخيالاتهم على مدن ومناظر وجمال لا يحسنون تفسيره، وصردت جلودهم بالبرودة أحلام هبطت بهم قيعان في يوم شاتٍ ونهارٍ ممطر فأفاقوا مبللين بآثار الأمطار التي اعترت أجسادهم الغضة ببرودتها وغمرت الفراش بالدفء طوال الليل.
يبدأ النهار بالتشمس في بسطة أمام باب الدار، وتتولى الأخت الكبرى نشر المفارش واللحف فوق الجناح لتجففها حرارة الشمس وتعقمها، وتعود لتضع رؤوس إخوتها وأخواتها الصغار على فخذيها وتفليهم، وتطلب من كل واحد يروي الحلم اللي شافه البارح، قال عامر لأخته الكبرى: قلي فاس؟ فقالت: فاس، قال: شربتي مرقة لحم العفاس، فملأت الضحكات أرجاء المكان.
كانت الشاحنة تقترب من أوعر الأودية الموصلة للقرية، والسائق يوازن المقود ليتفادى الحُفر، وجسده يتمايل يمنة ويسرة وصوت المبدع سعيد عمر يبعث من المسجل شجناً «يا موتر شفت نوره من حمى العاصي، بالله يا سيق الموتر على هونك، واذا وصلت المطبة لا ترجونه، عشان محبوب قلبي لا يجيه الرج، إذا تعب خاطره كني تعبت آنا».
أوقف الشاحنة بجوار جرين أرحامه، وحمل أكياس وبقشة فيها ملابس، وتجاوز كل البيوت دون أن يلتفت لأحد، وبين أولاده وزوجته، غمرته سعادته أنسته وعثاء سفره، ووزع ما جاء به فغدا الجميع منتشياً بالهدايا، وسرد الأب عليهم بعض قصصه مع هول الليل الذي كان يعترض طريقه ويحاول أن يتوهه في الصحاري.
مع نسمات يوم عائلي فاتن، سمع الأب صوت القمرية، المعششة في السدرة المحاذية للحوش، وكان ترديدها حزين فقال: «الله يكفينا شر ما في الغيب»، استيقظ عامر وخرج بالزميرة التي جاء بها الأب من السفر بين شفتيه، ولم ينتصف النهار حتى نشبت مضاربة مع ابن جارتهم القومانية (أم عدوان)، التقط حجراً مدبباً، وهرّف به ليتلقاه عدوان برأسه المحسّن وإذا كل حمراء تنضخ.
تناولت أم عامر عوداً من أغصان العرعر، وبدأت تغرز العود في حلة الدغابيس وتستخرجها واحداً واحداً، بمهارة وحذر كي لا ينخذم الدغبوس، ثم قطّعت بصلة ودقت الفلفل الأسود، وتناولت قطعة قماش تتوقى بها وصبّت المرق وعيون الصغار تتابع كمية اللحم في أسفل الحلة، التفت الأسرة حول مائدة غداها، ونشد الأب عن عامر، قالوا: سرح يتشرّع مع الورعان في غدير أم الدقيق، ومع أول خفسة قوّرها أبو عامر، أفزعتهم خبطة كف على خشب الباب، وسد جسد (أم عدوان) السفر عنهم، ودخلت تفتش، وكادت تكفح غداهم، تساءل الرجال: وشبك يا المرجوجة؟ فقالت: اخرج ولدك اللي فقع رأس اليتيم وين هو؟
قلّبت الأكياس، فقال أبو عامر: كفحت الطحين كفحوا دمك. ردّت إلا يكفحون دمك يا (قُرحان الطيغة)، مسح كفه في كيس خيش بجواره، وحزم عمامته على رأسه، واعتزى بأخته (متعبه) وقال: اعقبي يا (كبيرة المنسم) أخرعت السفان وأجفلت الحلال ونثّرت الفُرش وقربعت بالمواعين، وش تدوّرين له خاب لُقّك؟ حاول تهدئتها ودعاها تتغدى مع أم عياله وعياله، فنفرت فيه، وقالت: ما عاد إلا هي أتغدى مع عدواني، وش لأمها عند أبوها، اقترب منها واجتهد في تليين القول، وخفتها في أذنها بكلام هدأت منه ومعه، قالت: أبشر ذلحين باقعد أتغدى، ولكن زوجته خبث لها ما طاب، وقامت ضيقة، وفكّت فم القربة وخلّت الماء ينصب في الطشت حتى فاض. نظر إليها أبو عامر، وقال: عروق الغيرة تنافح، كما المعزا تناطح، وتبسم مردداً وش ذا اليوم اللي كله محاندة ومفاقع روس، يا الله إنا نعناك وأنحن سد وجهك يا بيتنا لا دخلك شامت.
يبدأ النهار بالتشمس في بسطة أمام باب الدار، وتتولى الأخت الكبرى نشر المفارش واللحف فوق الجناح لتجففها حرارة الشمس وتعقمها، وتعود لتضع رؤوس إخوتها وأخواتها الصغار على فخذيها وتفليهم، وتطلب من كل واحد يروي الحلم اللي شافه البارح، قال عامر لأخته الكبرى: قلي فاس؟ فقالت: فاس، قال: شربتي مرقة لحم العفاس، فملأت الضحكات أرجاء المكان.
كانت الشاحنة تقترب من أوعر الأودية الموصلة للقرية، والسائق يوازن المقود ليتفادى الحُفر، وجسده يتمايل يمنة ويسرة وصوت المبدع سعيد عمر يبعث من المسجل شجناً «يا موتر شفت نوره من حمى العاصي، بالله يا سيق الموتر على هونك، واذا وصلت المطبة لا ترجونه، عشان محبوب قلبي لا يجيه الرج، إذا تعب خاطره كني تعبت آنا».
أوقف الشاحنة بجوار جرين أرحامه، وحمل أكياس وبقشة فيها ملابس، وتجاوز كل البيوت دون أن يلتفت لأحد، وبين أولاده وزوجته، غمرته سعادته أنسته وعثاء سفره، ووزع ما جاء به فغدا الجميع منتشياً بالهدايا، وسرد الأب عليهم بعض قصصه مع هول الليل الذي كان يعترض طريقه ويحاول أن يتوهه في الصحاري.
مع نسمات يوم عائلي فاتن، سمع الأب صوت القمرية، المعششة في السدرة المحاذية للحوش، وكان ترديدها حزين فقال: «الله يكفينا شر ما في الغيب»، استيقظ عامر وخرج بالزميرة التي جاء بها الأب من السفر بين شفتيه، ولم ينتصف النهار حتى نشبت مضاربة مع ابن جارتهم القومانية (أم عدوان)، التقط حجراً مدبباً، وهرّف به ليتلقاه عدوان برأسه المحسّن وإذا كل حمراء تنضخ.
تناولت أم عامر عوداً من أغصان العرعر، وبدأت تغرز العود في حلة الدغابيس وتستخرجها واحداً واحداً، بمهارة وحذر كي لا ينخذم الدغبوس، ثم قطّعت بصلة ودقت الفلفل الأسود، وتناولت قطعة قماش تتوقى بها وصبّت المرق وعيون الصغار تتابع كمية اللحم في أسفل الحلة، التفت الأسرة حول مائدة غداها، ونشد الأب عن عامر، قالوا: سرح يتشرّع مع الورعان في غدير أم الدقيق، ومع أول خفسة قوّرها أبو عامر، أفزعتهم خبطة كف على خشب الباب، وسد جسد (أم عدوان) السفر عنهم، ودخلت تفتش، وكادت تكفح غداهم، تساءل الرجال: وشبك يا المرجوجة؟ فقالت: اخرج ولدك اللي فقع رأس اليتيم وين هو؟
قلّبت الأكياس، فقال أبو عامر: كفحت الطحين كفحوا دمك. ردّت إلا يكفحون دمك يا (قُرحان الطيغة)، مسح كفه في كيس خيش بجواره، وحزم عمامته على رأسه، واعتزى بأخته (متعبه) وقال: اعقبي يا (كبيرة المنسم) أخرعت السفان وأجفلت الحلال ونثّرت الفُرش وقربعت بالمواعين، وش تدوّرين له خاب لُقّك؟ حاول تهدئتها ودعاها تتغدى مع أم عياله وعياله، فنفرت فيه، وقالت: ما عاد إلا هي أتغدى مع عدواني، وش لأمها عند أبوها، اقترب منها واجتهد في تليين القول، وخفتها في أذنها بكلام هدأت منه ومعه، قالت: أبشر ذلحين باقعد أتغدى، ولكن زوجته خبث لها ما طاب، وقامت ضيقة، وفكّت فم القربة وخلّت الماء ينصب في الطشت حتى فاض. نظر إليها أبو عامر، وقال: عروق الغيرة تنافح، كما المعزا تناطح، وتبسم مردداً وش ذا اليوم اللي كله محاندة ومفاقع روس، يا الله إنا نعناك وأنحن سد وجهك يا بيتنا لا دخلك شامت.