صراع العلم مع الخرافة، أو بحسب اللفظ المخفف لها الأسطورة، هو صراع أبدي ومعقد لا يتوقف أبدا. وبالرغم من تمجيد دور العقل الإنساني المستمر نتاج التفوق العلمي الكبير والمستمر الذي يعيشه العالم بفضل الحقب العلمية المتلاحقة والنجاحات واضحة الملامح لها، بالرغم من كل هذا إلا أن هذا كله لم يتمكن من أن يضع حدا لسطوة الخرافة على الناس. يروي لي أحد رجال الأعمال قصة له مع مسؤول حكومي في وزارة السياحة في مصر منذ سنوات بعيدة جدا، عرض رجل الأعمال فكرة إحضار رجل الاستعراضات الكبرى الأمريكي ديفيد كوبرفيلد، والذي عرف بقدرته على «إخفاء» المواقع الأثرية الكبرى مثل تمثال الحرية وجسر بروكلين في نيويورك وبرج إيفل في فرنسا وخدعة أخرى مع سور الصين العظيم، ويعيدهم مجددا في عرض تلفزيوني مهيب ومذهل، يدر مدخولات هائلة نتاج الرعايات الإعلانية وحقوق البث التلفزيوني، وعرض الرجل على مسؤول السياحة في مصر أن يأتي ديفيد كوبرفيلد ويقوم باستعراضه الكبير على سفح الأهرامات الثلاثة «ويخفي» الهرم الأكبر ومن ثم يعيده مرة أخرى، فاستمع المسؤول إلى شرح الفكرة حتى النهاية وابتسم بهدوء رافعا حاجبيه وقال بنبرة هادئة: «وماذا لو أخفاه ولم يستطع إعادته؟ كيف سيكون شكلي أنا أمام العالم؟ ألا تعلم أن هذا الرجل مخاوي جن!»، تمعنت في هذه القصة بشكل معمق وبعيدا عن طرافتها الواضحة، إلا أنه لا يمكن إنكار سطوة الخرافة عليها. ولكن للأمانة تعليق المسؤول لم يأتِ من فراغ، فهو نتاج طبيعي لإرث تراكمي من تكريس مكانة الخرافات في السرديات التاريخية المعتمدة، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة ومتشعبة. وفي هذا السياق أتذكر تجربة شخصية حصلت معي وأنا أقرأ عن أحد أبرز صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سعد بن عبادة، أمير الأنصار والخزرج ورويت السرديات حادثة وفاته أنه «قتلته الجن وهو قائم يبول وذلك بسهم في قلبه»، وسمعوا قائلا يرد: «قتلنا سيد الخزرج.. سعد بن عبادة، رميناه بسهم.. فلم يخط فؤاده»، وطبعا قبول هذا النوع من السرديات هو الذي يكرس ويثبت الأفكار الخرافية والنماذج الأسطورية في حياتنا، ويصبح من المعقول هضم قصة زواج الجني من الأنسية، وإسلام الجن على أيدي الدعاة وصولا إلى رضوخ القضاة للفساد والرشوة بسبب إغواء الجن وسيطرتهم عليهم. وهناك مجموعة قليلة جدا ولكنها لافتة ومهمة في المكتبة العربية تحدث فيها مؤلفوها عن سيطرة الأسطورة على العقلية الشعبية في المشرق العربي، ولعل من أهم وأبرز من تناول هذا الموضوع بشكل علمي ومنهجي دقيق هو الباحث السوري الرائد في مجاله فراس السواح وتحديدا في كتابه المهم «الأسطورة والمعنى.. دراسات في الميثولوجيا والديانات»، والذي أسهب فيه في إيضاح النماذج المختلفة التي يتم فيها خلط الديني بالخرافة والأسطورة ليشكل كوكتيلا فريدا، ولكنه ملائم جدا للأطروحات السياسية أو الاجتماعية بحسب كل حالة. وهناك كتاب جديد يصب في نفس الاتجاه ويستحق الإشادة به للكاتب السعودي محمد أنور نويلاتي بعنوان: «جدة وأمنا حواء عبق المكان وعمق الزمان»، يقدم الكاتب فيه جهدا بحثيا عظيما ومحترما، يوضح فيه أمثلة مختلفة لتوغل الأسطورة في الذهنية العربية بأشكال مختلفة لتصبح مع الوقت نصا موازيا تماما للرواية الدينية. وهذا المشهد المتعلق بتبوؤ الخرافة والأسطورة مكانة مهمة في السردية الرسمية، كان جزءا أساسيا من الحالة العامة للمجتمع الغربي في عصور الظلام، حتى جاء عصر النهضة وتسيد المشهد العلمي بالتدريج، ومع الوقت بدأت الأساطير تسقط تباعا الواحدة تلو الأخرى. تسلط الخرافة والأسطورة بأشكاله المختلفة له دور كبير في تغييب العقل، وخروج المنطقة من دائرة التأثير، وبالتالي من صناعة الفارق والتغيير ومن ثم التاريخ. ويزداد تعلق الأمم والشعوب بالسرديات الأسطورية (مهما كانت صعبة التصديق واستحالة القبول) مع اضمحلال دورهم وأهميتهم على الصعيد الدولي. لا تتقدم الأمم ويتم البناء للمستقبل إلا بالنظر للأمام وطلاق تام مع الماضي، هكذا تعلمنا دروس التاريخ البليغة والسنن الكونية المتكررة أمام أعيننا باستمرار.