-A +A
محمد مفتي
تمثل الوعود الانتخابية لكل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة أساس حياتهما الحزبية، فكل حزب منهما يطمح بقوة للاستئثار بالفوز وتحقيق حلم الوصول لأعلى مرتبة سياسية في البلاد، ولا تتوقف الطموحات عند حد الانتخابات الرئاسية فحسب بل تتعداها للانتخابات البرلمانية، فكل حزب من الحزبين يسعى لتعزيز وجوده من خلال سيطرته على أكبر عدد ممكن من المقاعد، وهو ما يعني أن العملية الانتخابية بكافة تداعياتها تمثل أساس الحياة السياسية في الولايات المتحدة.

الوعود الانتخابية والبرنامج الانتخابي لكل حزب يعتبر أمراً بالغ الصعوبة لكلا الحزبين، ويشارك في إعداد البرنامج الانتخابي شخصيات بارزة ومتخصصة تعمل على بلورة سياسة كل حزب، وقد فطن الكثير من القائمين على إعداد تلك البرامج الانتخابية إلى أن صياغة وعود انتخابية جذابة تنفذ إلى قلب المواطن الأمريكي يعتمد بصورة أساسية على أن تمس تلك الوعود قلبه ومشاعره، طبعاً بخلاف ضرورة أن تعكس اهتماماته وتتقاطع مع أولوياته.


لا تقتصر طموحات أي حملة انتخابية لأي رئيس على فوزه بمقعد الرئاسة لفترة رئاسية واحدة، بل تعتمد بصورة جوهرية على فوزه بفترة رئاسة ثانية، كون فوز أي رئيس بفترة رئاسة واحدة يعد فشلاً وليس نجاحاً بأي صورة، فالفشل في الحصول على فترة رئاسة ثانية يعني أن الناخب الأمريكي لم يقنعه أداء الرئيس وحزبه خلال السنوات الأربع الأولى من رئاسته، ولذلك تهتم البرامج الانتخابية بتوفير وعود انتخابية طويلة الأمد للناخبين، ليظل المواطن مترقباً لأداء رئيسه ومنتظراً تحقيقه لوعوده الانتخابية.

غير أن مفهوم الوعود الانتخابية يظل مفهوماً نظرياً في الكثير من الأحيان، ذلك أن الكثير من المستجدات والمتغيرات على الأرض قد تحول دون تطبيقها، كما أن عدم تحقيق الوعود قد يعني أخطاءً جوهرية تتضمنها تلك الوعود النظرية ذاتها، بخلاف أن المستجدات السياسية والمتغيرات الدولية قد تدفع الرئيس إلى إعادة بلورة الخطط التي مثلتها وعوده الانتخابية، ولهذا يجب أن تتمتع تلك الخطط بالمرونة الكافية لكي يتم تعديلها أو تطويرها أو تغييرها أو حتى إلغائها إن لزم الأمر، وهذا أمر أدركه الكثير من الرؤساء بالفعل.

كل رئيس أمريكي يسعى جاهداً لتنفيذ وعوده الانتخابية، أو حتى جزء منها، حتى لا يواجه بانتقادات جارفة عن مدى وكيفية عدم التزامه بتطبيقها، وهو ما قد يؤدي بطبيعة الحال لفقدان ثقة المواطن الأمريكي فيه، الأمر الذي يعني بداهة عدم انتخابه لفترة رئاسية ثانية أو التشكيك في نزاهة الحزب نفسه، وفي نفس الوقت يعاني أي رئيس أمريكي من ضغوطات ممنهجة من كل من الحزب المنافس له ومن المؤسسات الإعلامية التي لا عمل لها سوى نقد الرئيس ومتابعة أنشطته، وبالتالي يصعب عليه كثيراً التملص من بنود برنامجه الانتخابي حتى لو تبين له خطؤه لاحقاً، وهو ما يفسر الارتباك والتضارب والاضطراب الذي يميز السياسة الأمريكية في الكثير من الأحيان، بل وقد يصل لحد الإضرار بمصالح البلاد القومية ذاتها.

على سبيل المثال كان إغلاق معتقل جوانتنامو هو أحد وعود الرئيس الأسبق أوباما، وهو المعتقل الذي أضر كثيراً بسمعة الولايات المتحدة، غير أنه بمجرد أن تولى الرئاسة وعقب زيارته الأولى للبنتاجون واستماعه لمبررات الفريق العسكري فيه، تبين له مدى صعوبة تحقيق وعده هذا بشكل فوري، وهو الأمر الذي يتكرر حالياً مع الرئيس بايدن، الذي يبدو أنه لا يدرك أبعاد قضية الانسحاب من أفغانستان جيداً، وهي القضية التي علقت فيها الإدارات الأمريكية السابقة مراراً، وتوارثها العديد منهم، وأصبح دور الرئيس منحصراً في توجيه النقد لمن سبقوه فحسب دون أن يقدم أي منهج جديد لمعالجة الأزمة.

يجد كل رئيس أمريكي منتخب عدداً من القضايا الخارجية العالقة المتوارثة أمام مكتبه في البيت الأبيض، مثل قضية العراق وأفغانستان وملف إيران النووي، ومن الواضح أن الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان قبل عقدين لم يؤتِ ثماره المتوقعة، ولم يقدم شيئاً ذا مغزى للأمن القومي الأمريكي، فالرئيس الجمهوري الأسبق بوش الابن لم يقتنع بسياسة الإدارة الديمقراطية السابقة في تعاملها مع العراق، ولا سيما ملف أسلحة الدمار الشامل، ولا بتعاملها مع تنظيم القاعدة في أفغانستان، لذلك وضع نصب عينيه اجتثاث نظامي طالبان وصدام حسين عقب توليه دفة الحكم.

الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق غيّر من معادلة الإرهاب في المنطقة بأكملها، فقد ظهرت عشرات المنظمات الإرهابية في المنطقة مستغلة الفوضى التي خلقها الفراغ السياسي في كلتا الدولتين، وعمت المنطقة الفوضى وأطلقت يد إيران هنا وهناك، سواء بمباركة أمريكية أو بتجاهل عمدي على أقل تقدير، ونظراً لأن التاريخ كثيراً ما يتشابه فإن انسحاب الولايات المتحدة حالياً من أفغانستان لتحقيق الوعود الانتخابية التي قطعها الرئيس بايدن على نفسه تتشابه كثيراً مع سياسات أسلافه، وكما كانت نتيجة ذلك ذات عواقب وخيمة، فكذلك يبدو انسحاب الولايات المتحدة غير المنظم من أفغانستان، الذي سيشعل المنطقة لا محالة ويطلق أيدي الكثير من المنظمات الإرهابية فيها، وهو ما سيكون له بطبيعة الحال أثر أسوأ مما هو متوقع، ومن المؤكد أن الولايات المتحدة ستجد نفسها رغماً عنها تسير في فلكها مرة أخرى دون رغبة منها، ليتحول الأمر لمستنقع مؤسف يصعب الخلاص منه أو تخليص العالم من شروره.