لطالما حلمت باليوم الذي تُدَرّس فيه مختلف العلوم في مدارسنا وجامعاتنا كما ينبغي لها أن تُدَرّس، أي بالطريقة الحديثة وفق المناهج العلمية السليمة، وأن يقتحم التفكير النقدي السببي المنطقي دهاليز مدارسنا وجامعاتنا في مختلف التخصصات. وها هو يتحقق الحلم ويصدر قرار وزارة التعليم بتدريس مادة التفكير النقدي في مناهجنا التعليمية على المستوى المتوسط والثانوي. وقبل ذلك كان قد صدر الضوء الأخضر لتدريس الفلسفة على مستوى الدراسة الجامعية. هذه القرارات تنقلنا من مرحلة التلقين وحشو الرؤوس بالمعلومات بدون تدبر ولا وعي إلى مرحلة إعمال الذهن وممارسة الفكر الإبداعي الخلاق وبناء العقول كما تبنى الأجساد بالتمرين والمراس بدلا من حشوها وترويضها لتسلّم بكل ما يقال لها. بهذا القرار نكون ودّعنا ثقافة القطيع ووضعنا أقدامنا على أول درجة من درجات السلم الصاعد نحو المعرفة العلمية، وبدأنا نخطو الخطوات الأولى نحو اقتحام مجالات العلم بالمعنى الحقيقي للعلم. نحن مقبلون على ما يمكن تسميته بعصر الأنوار، تنوير العقول وإنارة الطريق نحو مستقبل واعد.
غاية التعليم الحقيقية ليست حشو المخ بالمعلومات، وإنما تمرين العقل على كيفية الحصول على المعلومة ومن ثم على التفكير وتحليل المعلومة منطقيا وتدبرها وفق طرق منهجية تساعد على تمحيصها وفرز المعقول منها من اللامعقول والممكن من المستحيل والصحيح من الخطأ، وإمكانية تطبيق المعلومة وتوظيفها لخدمة البشرية في مختلف مناشط الحياة الدنيوية. فالتفكير النقدي لا يعطي أهمية للموضوع بقدر ما يعطي أهمية للطريقة التي يتم بها تناول الموضوع وتوظيفه في خدمة المجتمع الإنساني. التفكير مهارة عقلية مشتركة بين البشر لكنها تحتاج إلى تدريب وممارسة ومران لصقلها وتحسين أدائها. التفكير بموضوعية والتجرد من النزعات المتحيزة يحوّل العقل من مجرد مستودع للمعلومات إلى معمل يقوم بتحليل وفرز هذه المعلومات وتوظيفها في خدمة البشرية وفي إعمار الكون. لقد أنعم الله على البشر من دون سائر الكائنات بأفئدة تنير لهم حياتهم وترسم لهم الطريق الصحيح للعلم والعمل. تعطيل العقل وملكة التفكير كفران بأجلّ نعمة أنعم الله بها على البشر. الإنسان يمتهن نفسه بنفسه إن لم يستخدم عقله الذي يميزه كإنسان وبه فضّله الله على باقي الكائنات. ولن يفلح من لم يُخضع جميع أموره الحياتية للتفكير النقدي والمنطق.
التفكير النقدي ليس متطلبا أكاديميا فقط، بل هو كذلك متطلب حياتي معاشي يحصّن المرء ضد تقلبات المزاج ويساعد على استقلالية التفكير والابتكار في حل المشكلات واتخاذ القرارات السليمة والصائبة في جميع المواقف وشؤون الحياة العملية، وحتى العاطفية. هذا هو المخرج الوحيد من ضبابية التفكير وفقدان البوصلة. وعلى المستوى الوطني والاجتماعي يساهم التفكير النقدي في شحذ الفكر وفي رفع مستوى الوعي والانفتاح السياسي والاجتماعي، ويشكل حصانة فعّالة ضد الفكر الضال وخطابات الكراهية ويساعد في تعزيز قيم الوسطية والاعتدال والوقاية من التطرف. هشاشة التفكير هي المسؤول الأول عما كنا نعاني منه من فوضى فكرية في مختلف مجالات حياتنا الثقافية والاجتماعية. من يفتقر للحصانة الفكرية يتحول إلى إمّعة ينعق مع كل ناعق، يصبح شخصا يسهل عليه الانجراف وراء الشعارات الجوفاء، ويصبح فريسة سهلة تستهويه الخطب الرنانة وتتخطّفه الأيدي التي لا تريد به ولا بأمته خيرا. الوعي السياسي والاجتماعي يحتاج إلى فكر ناضج توجّهه منهجية فكرية سليمة واعية قادرة على تقييم المواقف وتحديد المصالح. الفكر غير المنضبط منطقيا يكون دائما في مهب الريح، تتنازعه الأهواء دائم التقلب على الجنبين.
ليس أدل على خطأ مناهج التعليم المتّبعة عندنا سابقا من أننا لا زلنا نعيش تقنيّا عالة على غيرنا، وذهبت هدرا كل المبالغ الطائلة التي صرفناها على مناهج التعليم. ماذا استفدنا طوال العقود الماضية من تعطيل عقولنا وإغلاق أسماعنا وأبصارنا عن مستجدات العلم الحديث ومكتشفاته ونظرياته، ومن تركيزنا على المسلّمات الغيبية والعالم الأخروي بدلا من العالم الدنيوي؟! الشيء الوحيد الذي خرجنا به هو أننا أصبحنا ندفع ما يقارب نصف مداخيلنا للخبرات الأجنبية التي تسلّحت بالعلم الحديث لتساعدنا بتقنياتها وآلاتها وخبراتها ومهاراتها في تدبير شؤوننا وتسيير أمور حياتنا، وأصبحنا دوما عرضة للضغط والابتزاز والتهديد بقطع هذه الخبرات والتقنيات عنا لأي سبب من الأسباب. وسنظل تحت رحمتهم ما لم نستفق من غفوتنا مثلما استفاقوا وننهض مثلما نهضوا.
الوصول إلى ذروة التفكير النقدي/المنطقي يتطلب من المؤسسات التعليمية تدريس الطلاب العلوم التطبيقية والإنسانية بجميع فروعها حسب أحدث المناهج العلمية الصحيحة والمعتبرة. وهناك مواد بعينها تشجع على التفكير النقدي/المنطقي، وهي مواد الرياضيات ومواد المنطق والفلسفة والعلوم التطبيقية بجميع فروعها. لكن لا فائدة من تعليم الطلاب الفكر النقدي إن كان الطالب يعيش في مجتمع منغلق لا يسمح له بممارسة التفكير المنطقي. هذه مهارة تحتاج إلى حاضنة اجتماعية منفتحة تشجع على ممارستها، والأهم إلى سياسة تعليمية تساعد على اكتساب هذه الملكة. ما نحتاجه هو السماح بتدريس العلوم، بما فيها الفلسفة والمنطق، على أسس منهجية صحيحة، وأن يشعر الفرد بأنه غير مقيد في تسخير عقله وفكره لممارسة الفكر الحيادي المجرد على المستوى العلمي.
لا يمكن تحقيق نهضة اقتصادية وصناعية ما لم ترتكز قواعد هذه النهضة على ركائز علمية بالمفهوم المعاصر للعلم والذي يقوم على الفكر السببي/المنطقي. بدون التفكير المنطقي لا يوجد علم، وبلا علم لا تقوم حضارة. بإصلاح مناهج التعليم نكون قد استكملنا إرساء القواعد الأساسية لبناء نهضة حديثة وتكون بلدنا قد استكملت استعداداتها لبناء مستقبل واعد. نحن نمر بمرحلة تحوّل في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والصناعية ولا فائدة من هذه التحولات إن لم تتم بأيدٍ وطنية مؤهلة تأهيلا عاليا تضيء دروبها العقول النيرة وتسدّد مقاصدها النوايا الخيّرة. نحن مقبلون على حقبة جديدة في تاريخنا الوطني ومسيرتنا الاجتماعية، حقبة نهضوية نحتاج فيها إلى أفكار مبدعة وأيادٍ ماهرة، أي إلى مخرجات تعليمية قادرة على سداد دين الوطن عليها وتحمّل المسؤوليات الجسام. فكلما تقدم الوطن على مسيرة التحديث كلما كان بأمس الحاجة إلى عقول محصّنة من أبنائه تقدّر المنجزات الوطنية وتحميها ولا تفرّط بها. علينا أن نستدرك ما فاتنا وعلى مؤسساتنا التعليمية أن تراجع سياساتها وأن تستثمر هذه الفرصة وتنهض بمهامها كما يجب، فنحن في سباق مع الزمن ومع بقية الأمم.
دولتنا بدأت تدشن سياسة تنموية عقلانية لا تقوم على الشعارات الشعبوية واجترار الماضي وإنما على رسم خطط عقلانية واقعية تصنع المستقبل عمادها النماء والتطوير والمنجزات ومشاركة المواطن ليكون محصّنا تحصينا فكريا يمكّنه من المساهمة بفعالية في رسم هذه السياسة وتحقيق أهدافها، وليكون مدركا لأبعادها التنموية وليقف بوعيه سدّا منيعا ضد كل من يحاول اختطافها وحرف مسارها. ومن مسؤولية جهات التعليم العام والتعليم العالي أن توفر لشبابنا المناهج التي تصنع منهم -ذكورا وإناثا- جيلا واعيا قادرا على النهوض بمسؤولياته وعلى اتخاذ مواقف موضوعية تخدم مصالح وطنية ملموسة، جيلا مؤهلا لا من حيث الكفاءات العلمية والمهنية، ولا من حيث الحصانة السياسية والاجتماعية، ولا من حيث ترتيب الأوليات بشكل عقلاني يقدم مسار المصلحة الوطنية على أي مسار آخر.
ها نحن بدأنا نحرث لنزرع فكرا إنسانيا سويّا مستقيما مسالما بعيدا عن العنف وانحرافات الفكر المتطرف. لقد اتخذت الدولة قرارها بالانفتاح على الفكر المستنير والآن جاء الدور على أجهزة التعليم لخلق بيئة تعليمية تحفيزية تنمّي الذهن وتساعد على التفكير الحر المبدع والخلّاق. ومع الأسف أن هذا مسار طويل، فليس هناك جرعة يأخذها الطالب في المساء ويصبح في اليوم التالي يفكّر تفكيرا نقديا منطقيا عقلانيا. هذا هدف لا يمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها. الأمر يحتاج إلى نفس طويل وإلى إعادة هيكلة جذرية في نظامنا التعليمي وإعادة تأهيل المدرسين والمناهج في جميع المراحل.
لقد جاءت هذه القرارات متأخرة ولكن أن تأتي متأخرة خيرٌ من ألّا تأتي أبدا. أرجو أننا بهذا التوجه الجديد ضربنا صفحا عن المناداة بأسلمة العلوم التي لم يمكن يقصد بها سوى تمكين الحركات الإسلامية من القبض على زمام الأمور، فهذه كلمة حق أريد بها باطل، إذ لا يوجد علم إسلامي وآخر مسيحي وآخر يهودي، فالعلم هو العلم، إنه منجز بشري محايد يشترك فيه الجميع ونعمة ميّز الله بها الإنسان وكرّمه عن باقي الكائنات. مسؤولية الدولة الحديثة هي تدبّر أمور مواطنيها الدنيوية، أما تدبّر الأمور الأخروية فهي مسؤولية المواطن، كل حسب قناعاته وما يمليه عليه ضميره.
بقي أن أزف التهاني لزملائي من أساتذة الجامعات والمعاهد العليا حيث أصبح الآن بمقدورهم أن ينهضوا بمهامهم التعليمية على الوجه الصحيح ويدرّسوا المناهج كما ينبغي لها أن تُدرّس وفق منهجية علمية صحيحة أساسها المنطق السليم. وفي الختام ليس بوسعي إلا أن أقول متنهّدا: ياليتني فيها جذع.
غاية التعليم الحقيقية ليست حشو المخ بالمعلومات، وإنما تمرين العقل على كيفية الحصول على المعلومة ومن ثم على التفكير وتحليل المعلومة منطقيا وتدبرها وفق طرق منهجية تساعد على تمحيصها وفرز المعقول منها من اللامعقول والممكن من المستحيل والصحيح من الخطأ، وإمكانية تطبيق المعلومة وتوظيفها لخدمة البشرية في مختلف مناشط الحياة الدنيوية. فالتفكير النقدي لا يعطي أهمية للموضوع بقدر ما يعطي أهمية للطريقة التي يتم بها تناول الموضوع وتوظيفه في خدمة المجتمع الإنساني. التفكير مهارة عقلية مشتركة بين البشر لكنها تحتاج إلى تدريب وممارسة ومران لصقلها وتحسين أدائها. التفكير بموضوعية والتجرد من النزعات المتحيزة يحوّل العقل من مجرد مستودع للمعلومات إلى معمل يقوم بتحليل وفرز هذه المعلومات وتوظيفها في خدمة البشرية وفي إعمار الكون. لقد أنعم الله على البشر من دون سائر الكائنات بأفئدة تنير لهم حياتهم وترسم لهم الطريق الصحيح للعلم والعمل. تعطيل العقل وملكة التفكير كفران بأجلّ نعمة أنعم الله بها على البشر. الإنسان يمتهن نفسه بنفسه إن لم يستخدم عقله الذي يميزه كإنسان وبه فضّله الله على باقي الكائنات. ولن يفلح من لم يُخضع جميع أموره الحياتية للتفكير النقدي والمنطق.
التفكير النقدي ليس متطلبا أكاديميا فقط، بل هو كذلك متطلب حياتي معاشي يحصّن المرء ضد تقلبات المزاج ويساعد على استقلالية التفكير والابتكار في حل المشكلات واتخاذ القرارات السليمة والصائبة في جميع المواقف وشؤون الحياة العملية، وحتى العاطفية. هذا هو المخرج الوحيد من ضبابية التفكير وفقدان البوصلة. وعلى المستوى الوطني والاجتماعي يساهم التفكير النقدي في شحذ الفكر وفي رفع مستوى الوعي والانفتاح السياسي والاجتماعي، ويشكل حصانة فعّالة ضد الفكر الضال وخطابات الكراهية ويساعد في تعزيز قيم الوسطية والاعتدال والوقاية من التطرف. هشاشة التفكير هي المسؤول الأول عما كنا نعاني منه من فوضى فكرية في مختلف مجالات حياتنا الثقافية والاجتماعية. من يفتقر للحصانة الفكرية يتحول إلى إمّعة ينعق مع كل ناعق، يصبح شخصا يسهل عليه الانجراف وراء الشعارات الجوفاء، ويصبح فريسة سهلة تستهويه الخطب الرنانة وتتخطّفه الأيدي التي لا تريد به ولا بأمته خيرا. الوعي السياسي والاجتماعي يحتاج إلى فكر ناضج توجّهه منهجية فكرية سليمة واعية قادرة على تقييم المواقف وتحديد المصالح. الفكر غير المنضبط منطقيا يكون دائما في مهب الريح، تتنازعه الأهواء دائم التقلب على الجنبين.
ليس أدل على خطأ مناهج التعليم المتّبعة عندنا سابقا من أننا لا زلنا نعيش تقنيّا عالة على غيرنا، وذهبت هدرا كل المبالغ الطائلة التي صرفناها على مناهج التعليم. ماذا استفدنا طوال العقود الماضية من تعطيل عقولنا وإغلاق أسماعنا وأبصارنا عن مستجدات العلم الحديث ومكتشفاته ونظرياته، ومن تركيزنا على المسلّمات الغيبية والعالم الأخروي بدلا من العالم الدنيوي؟! الشيء الوحيد الذي خرجنا به هو أننا أصبحنا ندفع ما يقارب نصف مداخيلنا للخبرات الأجنبية التي تسلّحت بالعلم الحديث لتساعدنا بتقنياتها وآلاتها وخبراتها ومهاراتها في تدبير شؤوننا وتسيير أمور حياتنا، وأصبحنا دوما عرضة للضغط والابتزاز والتهديد بقطع هذه الخبرات والتقنيات عنا لأي سبب من الأسباب. وسنظل تحت رحمتهم ما لم نستفق من غفوتنا مثلما استفاقوا وننهض مثلما نهضوا.
الوصول إلى ذروة التفكير النقدي/المنطقي يتطلب من المؤسسات التعليمية تدريس الطلاب العلوم التطبيقية والإنسانية بجميع فروعها حسب أحدث المناهج العلمية الصحيحة والمعتبرة. وهناك مواد بعينها تشجع على التفكير النقدي/المنطقي، وهي مواد الرياضيات ومواد المنطق والفلسفة والعلوم التطبيقية بجميع فروعها. لكن لا فائدة من تعليم الطلاب الفكر النقدي إن كان الطالب يعيش في مجتمع منغلق لا يسمح له بممارسة التفكير المنطقي. هذه مهارة تحتاج إلى حاضنة اجتماعية منفتحة تشجع على ممارستها، والأهم إلى سياسة تعليمية تساعد على اكتساب هذه الملكة. ما نحتاجه هو السماح بتدريس العلوم، بما فيها الفلسفة والمنطق، على أسس منهجية صحيحة، وأن يشعر الفرد بأنه غير مقيد في تسخير عقله وفكره لممارسة الفكر الحيادي المجرد على المستوى العلمي.
لا يمكن تحقيق نهضة اقتصادية وصناعية ما لم ترتكز قواعد هذه النهضة على ركائز علمية بالمفهوم المعاصر للعلم والذي يقوم على الفكر السببي/المنطقي. بدون التفكير المنطقي لا يوجد علم، وبلا علم لا تقوم حضارة. بإصلاح مناهج التعليم نكون قد استكملنا إرساء القواعد الأساسية لبناء نهضة حديثة وتكون بلدنا قد استكملت استعداداتها لبناء مستقبل واعد. نحن نمر بمرحلة تحوّل في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والصناعية ولا فائدة من هذه التحولات إن لم تتم بأيدٍ وطنية مؤهلة تأهيلا عاليا تضيء دروبها العقول النيرة وتسدّد مقاصدها النوايا الخيّرة. نحن مقبلون على حقبة جديدة في تاريخنا الوطني ومسيرتنا الاجتماعية، حقبة نهضوية نحتاج فيها إلى أفكار مبدعة وأيادٍ ماهرة، أي إلى مخرجات تعليمية قادرة على سداد دين الوطن عليها وتحمّل المسؤوليات الجسام. فكلما تقدم الوطن على مسيرة التحديث كلما كان بأمس الحاجة إلى عقول محصّنة من أبنائه تقدّر المنجزات الوطنية وتحميها ولا تفرّط بها. علينا أن نستدرك ما فاتنا وعلى مؤسساتنا التعليمية أن تراجع سياساتها وأن تستثمر هذه الفرصة وتنهض بمهامها كما يجب، فنحن في سباق مع الزمن ومع بقية الأمم.
دولتنا بدأت تدشن سياسة تنموية عقلانية لا تقوم على الشعارات الشعبوية واجترار الماضي وإنما على رسم خطط عقلانية واقعية تصنع المستقبل عمادها النماء والتطوير والمنجزات ومشاركة المواطن ليكون محصّنا تحصينا فكريا يمكّنه من المساهمة بفعالية في رسم هذه السياسة وتحقيق أهدافها، وليكون مدركا لأبعادها التنموية وليقف بوعيه سدّا منيعا ضد كل من يحاول اختطافها وحرف مسارها. ومن مسؤولية جهات التعليم العام والتعليم العالي أن توفر لشبابنا المناهج التي تصنع منهم -ذكورا وإناثا- جيلا واعيا قادرا على النهوض بمسؤولياته وعلى اتخاذ مواقف موضوعية تخدم مصالح وطنية ملموسة، جيلا مؤهلا لا من حيث الكفاءات العلمية والمهنية، ولا من حيث الحصانة السياسية والاجتماعية، ولا من حيث ترتيب الأوليات بشكل عقلاني يقدم مسار المصلحة الوطنية على أي مسار آخر.
ها نحن بدأنا نحرث لنزرع فكرا إنسانيا سويّا مستقيما مسالما بعيدا عن العنف وانحرافات الفكر المتطرف. لقد اتخذت الدولة قرارها بالانفتاح على الفكر المستنير والآن جاء الدور على أجهزة التعليم لخلق بيئة تعليمية تحفيزية تنمّي الذهن وتساعد على التفكير الحر المبدع والخلّاق. ومع الأسف أن هذا مسار طويل، فليس هناك جرعة يأخذها الطالب في المساء ويصبح في اليوم التالي يفكّر تفكيرا نقديا منطقيا عقلانيا. هذا هدف لا يمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها. الأمر يحتاج إلى نفس طويل وإلى إعادة هيكلة جذرية في نظامنا التعليمي وإعادة تأهيل المدرسين والمناهج في جميع المراحل.
لقد جاءت هذه القرارات متأخرة ولكن أن تأتي متأخرة خيرٌ من ألّا تأتي أبدا. أرجو أننا بهذا التوجه الجديد ضربنا صفحا عن المناداة بأسلمة العلوم التي لم يمكن يقصد بها سوى تمكين الحركات الإسلامية من القبض على زمام الأمور، فهذه كلمة حق أريد بها باطل، إذ لا يوجد علم إسلامي وآخر مسيحي وآخر يهودي، فالعلم هو العلم، إنه منجز بشري محايد يشترك فيه الجميع ونعمة ميّز الله بها الإنسان وكرّمه عن باقي الكائنات. مسؤولية الدولة الحديثة هي تدبّر أمور مواطنيها الدنيوية، أما تدبّر الأمور الأخروية فهي مسؤولية المواطن، كل حسب قناعاته وما يمليه عليه ضميره.
بقي أن أزف التهاني لزملائي من أساتذة الجامعات والمعاهد العليا حيث أصبح الآن بمقدورهم أن ينهضوا بمهامهم التعليمية على الوجه الصحيح ويدرّسوا المناهج كما ينبغي لها أن تُدرّس وفق منهجية علمية صحيحة أساسها المنطق السليم. وفي الختام ليس بوسعي إلا أن أقول متنهّدا: ياليتني فيها جذع.