-A +A
طلال صالح بنان
عند ذكر مؤسسات الدولة الرسمية، خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية، كثيراً ما تُغفل الصفة والدور المؤسساتي للدستور. هناك ثلاث مؤسسات رسمية للدولة، تجتمع فيها سلطات الدولة ويُطلق عليها مجتمعة مصطلح الحكومة. مؤسسات الدولة الرسمية هذه (التشريعية، التنفيذية، والقضائية) تمتلك وتحتكر حصرياً أدوات القهر والإجبار والعنف الرسمي في الدولة. مؤسسات سياسية رسمية تمتلك (سياسياً ومادياً) سلطة: صناعة وفرض القانون وتطبيقه.

لكن ما الذي يضمن أن هذه السلطات، برغم ما قد يكون بينها من توازن ورقابة متبادلة، في ظل صيغة الفصل بين السلطات أو دمجها، لا تنجرف فرادى أو مجتمعة نحو استغلال السلطة نفسها وتمتلك، بالتبعية: قوة ذاتية يصعب، إن لم يستحل السيطرة عليها وردعها. في مجتمعات الدول العريقة في الممارسة الديمقراطية ليس هناك ما يضمن تَغَوّل سلطات مؤسسات الدولة الرسمية، سوى ملاذ الدستور وحِمَاه المؤسساتي والسياسي (المعنوي والأخلاقي والقانوني الأسْمَى).


الدستور كان حاضراً في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة وما تمخض حولها من جدل، كاد أن يطيح بأهم ركائز الممارسة الديمقراطية (آلية التداول السلمي للسلطة). ما الذي جعل الرئيس السابق ترمب يخسر جميع القضايا التي رفعها طعناً في نتيجة انتخابات بعض الولايات المتأرجحة، رغم أن كثيراً من قضاة تلك الولايات عينوا في عهده، بما في ذلك ثلاثة من قضاة المحكمة الدستورية العليا التسعة.

ثم ما الذي أجبر الرئيس ترمب على مغادرة البيت الأبيض، قبل الساعة الثانية عشرة من ظهر العشرين من يناير الماضي، ليتولى الرئيس الجديد جو بايدن الرئاسة، فور انتهائه من أداء القسم، ليدخل البيت الأبيض مبتدئاً بالمكتب البيضاوي ليوقع مراسيم رئاسية كان فريقه الانتقالي قد جهزها، إيذاناً ببدء ممارسته الفعلية لسلطاته التنفيذية بوصفه الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية.

قبل ذلك، في السادس من يناير، حاول أنصار الرئيس ترمب الهجوم على مبنى الكابيتول لعرقلة تصديق مجلس الشيوخ على نتيجة الانتخابات الرئاسية.. ما كان من نائب الرئيس مايك بنس، حينها، إلا أن يختار احترام الدستور وعدم الاستجابة لرغبة رئيسه، ليستأنف برئاسته للمجلس إجراءات التصديق على نتيجة الانتخابات الرئاسية.

كل رموز مؤسسات الدولة الرسمية، في واشنطن وفي الولايات، رغم تنافر اتجاهاتها الحزبية ومصالحها السياسية، أبدت احتراماً للدستور.. وأظهرت خضوعاً لنصوصه.. وتصرفت بما يمليه عليها روح مضمون مواده وتعديلاته، وما كان يرمي إليه واضعوه الأوائل. كل ذلك والدستور مجرد وريقات قليلة، لا يمتلك أياً من موارد القوة الصلبة القاهرة، من جيش وشرطة وبيروقراطية وقضاء ورموز ومؤسسات سياسية واضحة المعالم ومتحركة على أرض الواقع، ليثبت الدستور أنه السلطة السياسية الرسمية الرابعة، التي تمتلك أدوات ردع ماضية غير مرئية، لكنها حاضرة بفاعلية وتمَكّن.

كان الدستور في الأزمة، التي مرت بها الولايات المتحدة أثناء تجربة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، في حقيقة الأمر، هو المؤسسة السياسية الحاكمة الرئيسية في الولايات المتحدة، التي تتجاوز قوة الردع السياسي الفعلي التي تتمتع بها، تلك القوة المادية الصلبة، التي تمتلكها مجتمعة مؤسسات الحكم الرسمية الثلاث في واشنطن.

الدستور الأمريكي أثبت، في تلك الأزمة، أنه الضمانة الحقيقية لسيادة الإرادة العامة.. والملاذ الآمن للحقوق والحريات، والحارس الأمين للديمقراطية.