قد ترى بين اليمنيين هاجسًا يعتليه الريبة حيال المنح السعودية التي تتعرض بعضها للسخرية والهجوم من شخصيات غاضبة وغامضة على وسائل التواصل الاجتماعي، سرعان ما تتقاذفها الأيدي من هاتف إلى آخر، حتى بات الشك سيد الموقف، وبهذه الشكوك وتلك الهواجس ذهبت إلى إدارة البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن، وقفت في بهو رمادي لمبنى من ثمانية طوابق، أمام موظف استقبال يقاوم غزو الشيب على لحيته الكثة، نظر إليّ من وراء نظارته السميكة، بينما كانت أصابعه ترتب شكل شماغه وتضع عقاله في منتصفه الصحيح، قائلًا: اكتب اسمك ورقمك هنا، ومدّ إليّ روزنامة أوراق كان قد جرّب عليها طريقته في التوقيع، وأحطته باسمي قائلًا: لديّ موعد هنا، هز رأسه قليلاً وعيناه تتصفحان هاتفه باهتمام، ثم أردف: وش قلت لي اسمك: سامر!
لا، سام
سامي !
احذف حرف الياء
وش
سين ألف ميم.
أها..
وابتسمت: نعم، كان هاتفي صامتًا، ولم أنتبه أن: «بسام» كان قد أطلق العنان لاتصالاته بعد أن أبلغته بوصولي إلى مواقف سيارات البرنامج، أخذني الموظف بابتسامة إلى المصعد، وضغط الرقم (2) ثم انسحب، بعد لحظات كان بسام ينتظرني عند باب المصعد بالدور الثاني، مرحبًا بتؤدة مشرقة، ورافقني إلى قاعة اجتماعات أنيقة. شاشة بلازما ضخمة، وطاولة خشبية مجهزة بمايكرفونات مخروطية، ثُبتت بإحكام إلى سطح الطاولة.
جلستُ على استحياء من أدب الترحيب الجمّ، كان الباب الزجاجي المغطى بعازل ضبابي يُفتح تباعًا، دلفت امرأتان ورجلان، استووا على مقاعد مقابلة لمقعدي، شعرت بالعطش!، كانت قناني الماء الفاخر تتراص أمامي مثل شلال هادر يروي ظمأ الظهيرة القائظ، دلقت نصف قنينة إلى جوفي، وبينما توقعت لقاءً لا يتجاوز ساعة واحدة، وجدتني في نهايته أحملق مشدوهًا إلى ساعتي التي استعرتها من صديق أنيق، وعقاربها الذهبية الدقيقة تشير إلى الساعة الرابعة بعد عصر الأربعاء الماضي.. مضى الوقت، ومضيت خلاله في رحلة جادة مع امرأة حديدية تتولى شؤون الإعلام الإستراتيجي بالبرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن. اسمها «ندى الدوسري»، أقبلت في رداء السعوديات اللائي أصبحن قائدات متمكنات من أدائهن، وكانت مبهرة في قدراتها، وثقتها بأدق تفاصيل عملها.. سألتها، ما هي التنمية وما هو الإعمار كان سؤالًا فلسفيًا، فتبسمت برهة، وقالت: هدف البرنامج ليس تقديم المساعدات الآنية، بل التنمية كتطوير لعمليات معينة بقصد تلبية احتياجات العامة، وتركيزنا يصب حاليًا على التعليم والصحة والطاقة والنقل، وأما الإعمار فهو الوسائل العمرانية التي تحتاجها لإحداث تنمية حقيقية.
كانت السياسة بعيدة عن حديثنا، بما في ذلك هذا المبنى المرتفع على ربوة عالية شمال الرياض يخلو منها، وينهمك في التعبير الطموح بالخطط والهندسة والأفكار الحيوية لخدمة من استطاعوا إليهم سبيلاً في بلادي المنهكة بالعنصرية وجبال الدم. جُعِلت السياسة أقصى جناح المبنى، محاصرة بأعمدة حديدية، حيث يقع مكتب مشرف البرنامج السفير محمد آل جابر، وفيه يحلو لقاء نظرائه وزواره، وأداء مهامه المضنية، ما جعله يقتطع جزءًا من مكتبه الفسيح ليصبح غرفة نوم مؤقتة، يستخدمها كلما زاد استغراقه في أعماله الدبلوماسية الرفيعة.
***
أشرق وجه «ندى» ضاحكًا وهي تستعرض قصة زميلهم السعودي الذي حرص على إنهاء ورشة عمل للمقاولين اليمنيين وفق المعايير الدولية في منطقة «الجوف» رغم الأحداث الأخيرة التي شهدت تراجع سيطرة الحكومة، وزحف الميليشيا الحوثية على بعض مديرياتها بصورة دراماتيكية مؤسفة، قالت: لقد أحب اليمن كما نحبها، ورغم خشيتنا عليه وتوفير وسائل آمنة لنقله إلا أن إصراره على تنفيذ مهمته كان أكبر من أوامرنا إليه، وقد نجح، وبنجاحه حصد امتنانًا لا يوصف ممن شارك في تنمية أدواتهم وأدائهم.
وسألتها بعدائية غير مبررة: أنتم مجرد صورة، ليست كل المشاريع التي تعلنون عنها حقيقية، ولماذا تفعلون هذا؟ وظننت أنها ستنهي اجتماعنا فورًا، لكنها رأت في السؤال تحديًّا، وأضفت مستدركًا لتلطيفه: هكذا يقول خصومكم؟ كانت إضافة إنقاذية تعلمتها من عملي المثابر في الحوارات الصحفية، وران صمت ثقيل، إلا من حفيف أصابع «ندى» وهي تقلب باهتمام سريع اضبارة ورقية ضخمة وُضِعت أمامها، ثم نزعت بضع أوراق وقدمتها إليّ: قائلة بحزم: هذه قائمة مشاريعنا، خذها معك، واذهب بنفسك، وتفقد، ولا تصدق سوى عينيك وأذنك، وأشارت إلى وسط أضلعي، مضيفة من وراء ابتسامة بعيدة: وقلبك.
جفلت، وسألت منفعلًا: ولِمَ تفعلون ذلك؟ قالت بحزمها السابق: لن أحدثك عن مدى عمق علاقة اليمن والسعودية، ولوّحت بكفيها في الهواء: ذلك حديث الدبلوماسيين، أما هنا فأني أحدثك عن تنمية وأرقام، اُسمِعك أصوات البنائين، وصرير معدات القطع والتركيب، أدعك تشاهد تدفق المياه من الآبار، وفرح المرضى في وحدات الغسيل الكلوي، فهذا البرنامج ليس أول يد بيضاء نمدها إلى بلادكم، بل هو تخصيص لتميز علاقتنا الإنسانية ومصالحنا المشتركة، فقد كان تمويل المشاريع التي تقدم إلى اليمن من الصندوق السعودي للتنمية، ولكنه كان صندوقًا لكل الدول، ولهذا صدرت موافقة سامية في مايو 2018م بإنشاء هذا البرنامج التنموي الخاص باليمن، وإشعار وزارت السعودية بإنفاذ التعاون معنا، وتقديم كل الخدمات اللوجستية المطلوبة لتنفيذ المشاريع داخل بلادكم.
كان فريقها المكون من: فهد (قسم الإبداع)، مشعل (قسم المحتوى)، ريما (قسم التواصل الداخلي)، أسماء (قسم الإعلام الرقمي) بسام (مكتب إدارة المشاريع بإدارة الإعلام) يتوزعون أمامي في كراسي متباعدة قليلًا بانتظار فرصتهم في الحديث، وبدأ «مشعل» بحديث عن تحديات وصول رسالة البرنامج الإعلامية إلى المتلقي اليمني الذي يتعرض للتشويش كلما مر اسم «السعودية» بسلام من أمامه، ومنه استرشدت بسؤال قلق: فعلًا، لِمَ يتعرض كل من تحدث عن السعودية باحترام وتوقير لعاصفة من التشكيك، وأشرت لنفسي «وقد اتعرض لذلك أيضًا» وضحكت بنبرة عالية..
ولم أسمع سوى صوتي، ونهام بومة حطت جناحيها بأعلى الكوة اليمنى المرتفعة حيث تغرب الشمس على حركتها الدائبة..
ابتلعت باقي ضحكتي، وقررت اللجوء إلى صمت «أسماء» التي تبادلت مع مديرتها لحظة موافقة بعينين راضيتين، وقالت: إن التفاعل الكبير الذي تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية لمشاريع البرنامج التنموية لها وقع قوي على الناس، وهم يعرفون جهود المملكة التي تحرص على أن تقدم كل هذا الأداء الحريص دون منّ أو أذى.
* * *
كان جارنا في مدينتي اليمنية «ذمار» عجوز لطيف مضحك، وكنا أطفالًا نلعب كرة القدم المحلية، نتشكل في بطولات متسلسلة تنتهي غالبًا بهزيمة فريقي، وذات يوم قادني فضول الطفل ودهشته لمراقبة أعمال إنشائية جديدة على الطريق الرئيسي لمدينتي التي لم تشهد الاسفلت الواسع منذ عقود، كان اسم «السعودية» حاضرًا في تلك الأعمال التوسعية التي نفذتها بالشراكة مؤسسة مقاولات يمنية عالية المعايير، ثم رأينا الصينيين في أحياءنا الترابية مثل غزاة، كانوا ينتشرون في كل شارع، جماعات وأفرادًا، وكل فرد منهم يعمل بجهد مذهل وكد فائق في تأسيس شبكة ضخمة للصرف الصحي تصل إلى كل منازل المدينة، وكان جارنا العجوز اللطيف الضحوك، معجبًا بالكتل الاسمنتية الصلبة التي تُسمى وفق المصطلح اليمني «بندورات»، وقرر في غفلة العامل الصيني أن يسرق منها لبناء حوض مائي كبير لأشجار حديقته الخلفية، وبعد أن ظن أنه غافل «الصيني» ذي العينين المغمضتين، هجم عليه العامل، وجعل يطرق باب حديقته بعنف، ويصيح بلغة صينية، وينادي أصحابه، الذين كانوا يتعجبون لتصرفات صاحبنا، حتى أننا تجمعنا حولهم، وكنا نضحك، وهم كمن يستنكر فعلته بالقول: أين عقلك، لقد جئنا لنبني لبلادك شبكة ضخمة من المشاريع الممولة سعوديًا، وأنت تطمع في أشياء صغيرة قد توقف العمل لأيام، أو ساعات.
استعاد الصيني الكتل الاسمنتية المسروقة، فيما كان الوادي البعيد يشهد أعمالًا مدهشة في تركيب أعمدة عملاقة لكهرباء الضغط العالي التوسعية عبر المدن، بتمويل مباشر من الصندوق السعودي للتنمية. بعد أيام ونحن في رحلة رمضانية قبل نداء الإفطار، كانت لوحة المشروع قد تعرضت للخدش والتشويه، وطمست معالم الممول، وبقيّ الإنجاز شاهدًا إلى يومنا هذا.
عُدت على صوت «بسام» يشرح باقتضاب أداء الشباب السعودي في المكاتب الهندسية الملحقة بالبرنامج، على أحدث تطبيقات الهندسة والتخطيط للمشاريع الحضرية، وحقيقة تفاعلهم الملتزم بأداء عالي المستوى، وقطبت حاجبيّ: سعوديون! وأجابني بثقة: نعم، افتر ثغري عن ابتسامة شك: أكل هذه المخططات والمشاريع والوسائل من إنتاج سعوديين؟ وتبادلوا جميعًا نظرات ضاحكة، وأجابوا في وقت واحد بصوت واحد: نعم.
لم نعترف بعد أننا نحن اليمنيون منذ العام 2006 واجهنا تحديات ضخمة في استيعاب المنح المقدمة من دول العالم، وعلى وجه الخصوص من المملكة العربية السعودية التي كانت ترسل إلى خزائن الدولة أرقامًا من تسعة أصفار وبالريال السعودي، كان ثمة ثقوب في وعاء التنمية اليمني، تتسرب منه أموال المانحين وتختفي، حتى قررت المملكة أن تعمل بنفسها داخل الأراضي اليمنية، بشراكة رئيسية مع وزارة التخطيط والتعاون الدولي، وتعاون الوزارات ذات الصلة، وأسست لذلك وفق اتفاقية تعاون موقعة مع الجانب الحكومي عددًا من الفروع في المناطق المحررة.
كانت تأثيرات الصواريخ المحرمة دوليًا «سكود» تمزق أطفال مأرب، وأصوات الغزاة الحوثيين تهتف جذلًا لمرأى الدماء البريئة، وفي الجانب الآخر من المدينة التي تتعرض لأشرس إصرار إيراني - حوثي على احتلالها منذ فبراير 2020، كنت واقفًا أمام مجمع الموهوبين في شمال مأرب، المكون من مبانٍ عدة متلاصقة من طابقين يقع في مساحة ألفي متر تقريبًا، وتمثلت نسبة إنجازه حوالى 70%.
كانت أوراق المشاريع التي تسلمتها من السيدة «ندى الدوسري» ما تزال في يدي، أعدها واحدة تلو أخرى، حتى تعبت، من منطقة كرى أقصى حدود مأرب إلى أدنى نقطة في حدود محافظة المهرة على حدود سلطنة عُمان الشقيقة
فيأسبوعين كاملين، كانت خارطة مشاريع «البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن» وجهتي التي تبدلت إلى سياحة استكشافية، فتلك مناطق لم أكن قد وطأتها. اكتريت سيارة هايلوكس بيضاء من منفذ الوديعة وعليها سائق نحيل، وبمنتصف وجهه ذلك الأنف البدوي الذي يوحي بالثقة والمروءة، وبلغت بسيارته أقصى الأماكن، درنا حول 40 بئرًا، واغتسلنا بفرح، وحولنا تحلق بعض الصبية، ونهرنا عجوز حفر الزمن أخاديد غامضة عميقة على وجهه، من العبث بالماء، وسألته عن الحياة، فكأنه نذر صومًا عن الحديث لأحد من البشر، واكتفى بإشارة من عصاه إلى البئر، فيما كان الصبية قد استعدوا للعب كرة القدم، وجعلوا أعمدة اللوحة التعريفية بالمشروع التي ترتفع بمقدار متر إضافي عن حافة رؤوسهم المنكشة، مرمى لفريق من أربعة صبية كان خامسهم عند منتصفه يتهيأ لصد هجمات الفريق الآخر.
في تعز، فكرت بالمغامرة صعودًا إلى «مديريتي مشرعة وحدنان» حيث استرعت صورة طلاب يدرسون في العراء مع معلمهم اهتمام مشرف البرنامج السفير محمد آل جابر، الذي طلب من فريقه بحث إمكانية بناء مدرسة حقيقية، فتم لهم ذلك. غير أن بُعدها المضني أعادني إلى أسفل، حيث بقايا طريق رسمته الدولة قبل عقود، ونسيته في غمرة اطمئنانها إلى عبارات صحف الحكومة التي كانت تؤكد في كل مناسبتين وما بينهما على أنها أنجزت كل شيء!
خلال 4 سنوات مضت، كان طريق العبر - مأرب مصيدة مميتة للمغتربين اليمنيين الذين تعودت أقدامهم على طرق المملكة العربية السعودية، لتفاجئهم حفريات هذا الطريق الصحراوي، مسببة مآسي إنسانية مفجعة، كنت أنظر بفزع إلى هياكل سيارات متفرقة على جانبيّ الطريق، أكلها الصدأ وغمرت أطرافها رمال الصحراء، وراء كل مقود من تلك السيارات كان ثمة شاب متأنق يطوي الطريق بلهفة، تتكون في مخيلته مشاهد استقباله بقريته، مستذكرًا كل الوجوه التي تنتظره على سفح الوادي القريب من منزلهم، كانوا كلما تذكروا شيئًا من حبور أمهاتهم وشقيقاتهم تتراقص على شفاههم بسمات متعددة، ثم فجأة يقعون في حفر غادرة، فتنهار الذكريات، وتنتهي حيواتهم، ويعلو نواح أقاربهم المقهورين على عيالهم الذين ما عادوا. اهتز جسدي مثل شجرة خوخ وأدركت يديّ السائق البدوي تنتزعني من شرود حزين، ومضيت، أغمضت عينيّ، غير أن المشهد السعيد تلألأ مثل واحة بعيدة لظامئ تاه في فيفاء قائظة، كانت معدات ضخمة تتناوب على إعادة سفلتة هذا الطريق الموحش بدعم مباشر من البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن، وقعت وزارة الأشغال العامة أخيرًا اتفاقًا مع البرنامج السعودي الذي اتفق بدوره مع مقاولين يمنيين ذوي معايير عالية وقدرات لوجستية تسمح لهم بالعمل الفوري على إعادة بناء الطريق الاسفلتي.
اليمن كبيرة، كبيرة جدًا، وأغلب ما فيها كان فاشلًا، رصدت جهات دولية عدة أن الخراب الإداري بدأ في العام 2006، قبل أن يبدأ التأزم السياسي الذي وصل ذروته باحتجاجات 2011 بما قضى على الآمال القريبة باستعادة الدولة قدرتها على النجاح، ومنذ تلك اللحظات لم تتوقف السعودية عن الدعم السخي لليمن، غير أن بلادي تحتاج إدارة حقيقية تستوعب هذه التنمية بتركيز عالٍ وإخلاص حقيقي يخفف عن الناس تعاستهم، وينشر الأمل في وجوههم، كما تنشر البذور في أرض خصبة فواحة النعيم.
جاء دور الوديعة السعودية الأضخم، للحفاظ على استقرار سعر صرف الريال اليمني، ولم أكن بارعًا في الأرقام كعادتي السيئة مع الرياضيات، غير أني أدركت أن أكثر من ملياري دولار لم تكن مبلغًا هينًا، وهبته المملكة عن طيب خاطر إلى البنك المركزي اليمني، كانت السعودية أحق بالمبلغ الضخم وهي تواجه جائحة كورونا، وتتعرض للإغلاق التام لسنة كاملة تقريبًا أسوة بباقي حكومات العالم التي قدرت أن العناية بمواطنيها أصل وسبب وجودها.
الكرم بات عملة نادرة، لا أحد يمكن أن يقدم هذا السخاء، يمكن لكل متحاذق أن يطوف بطائرته الدول الغنية، والدول الأخرى التي تجاهر بمحبتها لليمن، ستجد أن ما قد تهبه لك يرتبط بمصلحة مؤذية، مع السعودية تربطنا المصالح أيضًا، لكنها مصالح حسن الجوار، وإصرارها على ألا تتحول اليمن إلى أداة مؤذية لها، وهذا ما فهمه البعض، واستغله البعض الآخر لابتزاز المملكة، وما زلنا بحاجة إلى الإيمان بأن وجودنا وكرامتنا وسعادتنا لن تتحقق ما لم يكف المجرمون عن الإصرار على القتال، والاندفاع المخلص إلى طاولة مفاوضات جادة بنوايا حسنة، وسرائر لا تبطن المكر.
كانت الأرقام تبدو أمامي وكأن لها روحا، ما تلبث أن تنسل من شاشة العرض لتدور حولي. في تطوافي إلى أماكن الإنشاءات، وزيارة مكاتب البرنامج في عدن وسيئون وميدي «حجّة» ومأرب والمكلا، - لم أتمكن من زيارة سقطرى - كنت أفتش عن الفرح في وجوه المستفيدين، وكانوا سعداء، لم تصلهم خيرات بلادهم الأساسية، كان المال السابق يتدفق إلى جيوب لاهية عابثة، ولم تدع «ندى الدوسري» جهدًا في إظهار مدى أهمية برنامج مثل هذا لحياة اليمنيين. وفي العمق، كانت الشرعية تتعرض لقضمات عسكرية خطيرة على الأرض، فيما السياسة تلعب أقذر قدراتها إلى حتف مجنون، وتمنيت لو أنها توقفت، وسكنت أصوات المدافع، وخفت أنين الجرحى ونواح الأرامل العابر لحدود الشمس، كي تستقر التنمية فقط، ويشمر اليمانيون عن سواعدهم لبناء بلدهم بالطريقة الصادقة، وأن يذهب كل قرش من أموال المنح والمساعدات إلى الإعمار والتنمية. أن نستثمر في عقول الشباب الذين تتزايد أعدادهم بين صريع وجريح وهارب ومغترب ولاجئ.
حين غادرت، كانت الرياض تشع بألوان لازوردية، وتلمع على الكثبان الصحراوية البعيدة قصة إصرار جعلت هذه العاصمة دوحة غناء، مليئة بالأبراج والمرايا، والدهشة والأناقة، قصة يجب أن يتعلمها ويتقنها كل قلب نقي وكل يدٍ بيضاء تريد لبلدها العلو ولمبانيه البريق ولشوارعه الاتساع ولأهله السعادة والأمل والأمان.
لا، سام
سامي !
احذف حرف الياء
وش
سين ألف ميم.
أها..
وابتسمت: نعم، كان هاتفي صامتًا، ولم أنتبه أن: «بسام» كان قد أطلق العنان لاتصالاته بعد أن أبلغته بوصولي إلى مواقف سيارات البرنامج، أخذني الموظف بابتسامة إلى المصعد، وضغط الرقم (2) ثم انسحب، بعد لحظات كان بسام ينتظرني عند باب المصعد بالدور الثاني، مرحبًا بتؤدة مشرقة، ورافقني إلى قاعة اجتماعات أنيقة. شاشة بلازما ضخمة، وطاولة خشبية مجهزة بمايكرفونات مخروطية، ثُبتت بإحكام إلى سطح الطاولة.
جلستُ على استحياء من أدب الترحيب الجمّ، كان الباب الزجاجي المغطى بعازل ضبابي يُفتح تباعًا، دلفت امرأتان ورجلان، استووا على مقاعد مقابلة لمقعدي، شعرت بالعطش!، كانت قناني الماء الفاخر تتراص أمامي مثل شلال هادر يروي ظمأ الظهيرة القائظ، دلقت نصف قنينة إلى جوفي، وبينما توقعت لقاءً لا يتجاوز ساعة واحدة، وجدتني في نهايته أحملق مشدوهًا إلى ساعتي التي استعرتها من صديق أنيق، وعقاربها الذهبية الدقيقة تشير إلى الساعة الرابعة بعد عصر الأربعاء الماضي.. مضى الوقت، ومضيت خلاله في رحلة جادة مع امرأة حديدية تتولى شؤون الإعلام الإستراتيجي بالبرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن. اسمها «ندى الدوسري»، أقبلت في رداء السعوديات اللائي أصبحن قائدات متمكنات من أدائهن، وكانت مبهرة في قدراتها، وثقتها بأدق تفاصيل عملها.. سألتها، ما هي التنمية وما هو الإعمار كان سؤالًا فلسفيًا، فتبسمت برهة، وقالت: هدف البرنامج ليس تقديم المساعدات الآنية، بل التنمية كتطوير لعمليات معينة بقصد تلبية احتياجات العامة، وتركيزنا يصب حاليًا على التعليم والصحة والطاقة والنقل، وأما الإعمار فهو الوسائل العمرانية التي تحتاجها لإحداث تنمية حقيقية.
كانت السياسة بعيدة عن حديثنا، بما في ذلك هذا المبنى المرتفع على ربوة عالية شمال الرياض يخلو منها، وينهمك في التعبير الطموح بالخطط والهندسة والأفكار الحيوية لخدمة من استطاعوا إليهم سبيلاً في بلادي المنهكة بالعنصرية وجبال الدم. جُعِلت السياسة أقصى جناح المبنى، محاصرة بأعمدة حديدية، حيث يقع مكتب مشرف البرنامج السفير محمد آل جابر، وفيه يحلو لقاء نظرائه وزواره، وأداء مهامه المضنية، ما جعله يقتطع جزءًا من مكتبه الفسيح ليصبح غرفة نوم مؤقتة، يستخدمها كلما زاد استغراقه في أعماله الدبلوماسية الرفيعة.
***
أشرق وجه «ندى» ضاحكًا وهي تستعرض قصة زميلهم السعودي الذي حرص على إنهاء ورشة عمل للمقاولين اليمنيين وفق المعايير الدولية في منطقة «الجوف» رغم الأحداث الأخيرة التي شهدت تراجع سيطرة الحكومة، وزحف الميليشيا الحوثية على بعض مديرياتها بصورة دراماتيكية مؤسفة، قالت: لقد أحب اليمن كما نحبها، ورغم خشيتنا عليه وتوفير وسائل آمنة لنقله إلا أن إصراره على تنفيذ مهمته كان أكبر من أوامرنا إليه، وقد نجح، وبنجاحه حصد امتنانًا لا يوصف ممن شارك في تنمية أدواتهم وأدائهم.
وسألتها بعدائية غير مبررة: أنتم مجرد صورة، ليست كل المشاريع التي تعلنون عنها حقيقية، ولماذا تفعلون هذا؟ وظننت أنها ستنهي اجتماعنا فورًا، لكنها رأت في السؤال تحديًّا، وأضفت مستدركًا لتلطيفه: هكذا يقول خصومكم؟ كانت إضافة إنقاذية تعلمتها من عملي المثابر في الحوارات الصحفية، وران صمت ثقيل، إلا من حفيف أصابع «ندى» وهي تقلب باهتمام سريع اضبارة ورقية ضخمة وُضِعت أمامها، ثم نزعت بضع أوراق وقدمتها إليّ: قائلة بحزم: هذه قائمة مشاريعنا، خذها معك، واذهب بنفسك، وتفقد، ولا تصدق سوى عينيك وأذنك، وأشارت إلى وسط أضلعي، مضيفة من وراء ابتسامة بعيدة: وقلبك.
جفلت، وسألت منفعلًا: ولِمَ تفعلون ذلك؟ قالت بحزمها السابق: لن أحدثك عن مدى عمق علاقة اليمن والسعودية، ولوّحت بكفيها في الهواء: ذلك حديث الدبلوماسيين، أما هنا فأني أحدثك عن تنمية وأرقام، اُسمِعك أصوات البنائين، وصرير معدات القطع والتركيب، أدعك تشاهد تدفق المياه من الآبار، وفرح المرضى في وحدات الغسيل الكلوي، فهذا البرنامج ليس أول يد بيضاء نمدها إلى بلادكم، بل هو تخصيص لتميز علاقتنا الإنسانية ومصالحنا المشتركة، فقد كان تمويل المشاريع التي تقدم إلى اليمن من الصندوق السعودي للتنمية، ولكنه كان صندوقًا لكل الدول، ولهذا صدرت موافقة سامية في مايو 2018م بإنشاء هذا البرنامج التنموي الخاص باليمن، وإشعار وزارت السعودية بإنفاذ التعاون معنا، وتقديم كل الخدمات اللوجستية المطلوبة لتنفيذ المشاريع داخل بلادكم.
كان فريقها المكون من: فهد (قسم الإبداع)، مشعل (قسم المحتوى)، ريما (قسم التواصل الداخلي)، أسماء (قسم الإعلام الرقمي) بسام (مكتب إدارة المشاريع بإدارة الإعلام) يتوزعون أمامي في كراسي متباعدة قليلًا بانتظار فرصتهم في الحديث، وبدأ «مشعل» بحديث عن تحديات وصول رسالة البرنامج الإعلامية إلى المتلقي اليمني الذي يتعرض للتشويش كلما مر اسم «السعودية» بسلام من أمامه، ومنه استرشدت بسؤال قلق: فعلًا، لِمَ يتعرض كل من تحدث عن السعودية باحترام وتوقير لعاصفة من التشكيك، وأشرت لنفسي «وقد اتعرض لذلك أيضًا» وضحكت بنبرة عالية..
ولم أسمع سوى صوتي، ونهام بومة حطت جناحيها بأعلى الكوة اليمنى المرتفعة حيث تغرب الشمس على حركتها الدائبة..
ابتلعت باقي ضحكتي، وقررت اللجوء إلى صمت «أسماء» التي تبادلت مع مديرتها لحظة موافقة بعينين راضيتين، وقالت: إن التفاعل الكبير الذي تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية لمشاريع البرنامج التنموية لها وقع قوي على الناس، وهم يعرفون جهود المملكة التي تحرص على أن تقدم كل هذا الأداء الحريص دون منّ أو أذى.
* * *
كان جارنا في مدينتي اليمنية «ذمار» عجوز لطيف مضحك، وكنا أطفالًا نلعب كرة القدم المحلية، نتشكل في بطولات متسلسلة تنتهي غالبًا بهزيمة فريقي، وذات يوم قادني فضول الطفل ودهشته لمراقبة أعمال إنشائية جديدة على الطريق الرئيسي لمدينتي التي لم تشهد الاسفلت الواسع منذ عقود، كان اسم «السعودية» حاضرًا في تلك الأعمال التوسعية التي نفذتها بالشراكة مؤسسة مقاولات يمنية عالية المعايير، ثم رأينا الصينيين في أحياءنا الترابية مثل غزاة، كانوا ينتشرون في كل شارع، جماعات وأفرادًا، وكل فرد منهم يعمل بجهد مذهل وكد فائق في تأسيس شبكة ضخمة للصرف الصحي تصل إلى كل منازل المدينة، وكان جارنا العجوز اللطيف الضحوك، معجبًا بالكتل الاسمنتية الصلبة التي تُسمى وفق المصطلح اليمني «بندورات»، وقرر في غفلة العامل الصيني أن يسرق منها لبناء حوض مائي كبير لأشجار حديقته الخلفية، وبعد أن ظن أنه غافل «الصيني» ذي العينين المغمضتين، هجم عليه العامل، وجعل يطرق باب حديقته بعنف، ويصيح بلغة صينية، وينادي أصحابه، الذين كانوا يتعجبون لتصرفات صاحبنا، حتى أننا تجمعنا حولهم، وكنا نضحك، وهم كمن يستنكر فعلته بالقول: أين عقلك، لقد جئنا لنبني لبلادك شبكة ضخمة من المشاريع الممولة سعوديًا، وأنت تطمع في أشياء صغيرة قد توقف العمل لأيام، أو ساعات.
استعاد الصيني الكتل الاسمنتية المسروقة، فيما كان الوادي البعيد يشهد أعمالًا مدهشة في تركيب أعمدة عملاقة لكهرباء الضغط العالي التوسعية عبر المدن، بتمويل مباشر من الصندوق السعودي للتنمية. بعد أيام ونحن في رحلة رمضانية قبل نداء الإفطار، كانت لوحة المشروع قد تعرضت للخدش والتشويه، وطمست معالم الممول، وبقيّ الإنجاز شاهدًا إلى يومنا هذا.
عُدت على صوت «بسام» يشرح باقتضاب أداء الشباب السعودي في المكاتب الهندسية الملحقة بالبرنامج، على أحدث تطبيقات الهندسة والتخطيط للمشاريع الحضرية، وحقيقة تفاعلهم الملتزم بأداء عالي المستوى، وقطبت حاجبيّ: سعوديون! وأجابني بثقة: نعم، افتر ثغري عن ابتسامة شك: أكل هذه المخططات والمشاريع والوسائل من إنتاج سعوديين؟ وتبادلوا جميعًا نظرات ضاحكة، وأجابوا في وقت واحد بصوت واحد: نعم.
لم نعترف بعد أننا نحن اليمنيون منذ العام 2006 واجهنا تحديات ضخمة في استيعاب المنح المقدمة من دول العالم، وعلى وجه الخصوص من المملكة العربية السعودية التي كانت ترسل إلى خزائن الدولة أرقامًا من تسعة أصفار وبالريال السعودي، كان ثمة ثقوب في وعاء التنمية اليمني، تتسرب منه أموال المانحين وتختفي، حتى قررت المملكة أن تعمل بنفسها داخل الأراضي اليمنية، بشراكة رئيسية مع وزارة التخطيط والتعاون الدولي، وتعاون الوزارات ذات الصلة، وأسست لذلك وفق اتفاقية تعاون موقعة مع الجانب الحكومي عددًا من الفروع في المناطق المحررة.
كانت تأثيرات الصواريخ المحرمة دوليًا «سكود» تمزق أطفال مأرب، وأصوات الغزاة الحوثيين تهتف جذلًا لمرأى الدماء البريئة، وفي الجانب الآخر من المدينة التي تتعرض لأشرس إصرار إيراني - حوثي على احتلالها منذ فبراير 2020، كنت واقفًا أمام مجمع الموهوبين في شمال مأرب، المكون من مبانٍ عدة متلاصقة من طابقين يقع في مساحة ألفي متر تقريبًا، وتمثلت نسبة إنجازه حوالى 70%.
كانت أوراق المشاريع التي تسلمتها من السيدة «ندى الدوسري» ما تزال في يدي، أعدها واحدة تلو أخرى، حتى تعبت، من منطقة كرى أقصى حدود مأرب إلى أدنى نقطة في حدود محافظة المهرة على حدود سلطنة عُمان الشقيقة
فيأسبوعين كاملين، كانت خارطة مشاريع «البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن» وجهتي التي تبدلت إلى سياحة استكشافية، فتلك مناطق لم أكن قد وطأتها. اكتريت سيارة هايلوكس بيضاء من منفذ الوديعة وعليها سائق نحيل، وبمنتصف وجهه ذلك الأنف البدوي الذي يوحي بالثقة والمروءة، وبلغت بسيارته أقصى الأماكن، درنا حول 40 بئرًا، واغتسلنا بفرح، وحولنا تحلق بعض الصبية، ونهرنا عجوز حفر الزمن أخاديد غامضة عميقة على وجهه، من العبث بالماء، وسألته عن الحياة، فكأنه نذر صومًا عن الحديث لأحد من البشر، واكتفى بإشارة من عصاه إلى البئر، فيما كان الصبية قد استعدوا للعب كرة القدم، وجعلوا أعمدة اللوحة التعريفية بالمشروع التي ترتفع بمقدار متر إضافي عن حافة رؤوسهم المنكشة، مرمى لفريق من أربعة صبية كان خامسهم عند منتصفه يتهيأ لصد هجمات الفريق الآخر.
في تعز، فكرت بالمغامرة صعودًا إلى «مديريتي مشرعة وحدنان» حيث استرعت صورة طلاب يدرسون في العراء مع معلمهم اهتمام مشرف البرنامج السفير محمد آل جابر، الذي طلب من فريقه بحث إمكانية بناء مدرسة حقيقية، فتم لهم ذلك. غير أن بُعدها المضني أعادني إلى أسفل، حيث بقايا طريق رسمته الدولة قبل عقود، ونسيته في غمرة اطمئنانها إلى عبارات صحف الحكومة التي كانت تؤكد في كل مناسبتين وما بينهما على أنها أنجزت كل شيء!
خلال 4 سنوات مضت، كان طريق العبر - مأرب مصيدة مميتة للمغتربين اليمنيين الذين تعودت أقدامهم على طرق المملكة العربية السعودية، لتفاجئهم حفريات هذا الطريق الصحراوي، مسببة مآسي إنسانية مفجعة، كنت أنظر بفزع إلى هياكل سيارات متفرقة على جانبيّ الطريق، أكلها الصدأ وغمرت أطرافها رمال الصحراء، وراء كل مقود من تلك السيارات كان ثمة شاب متأنق يطوي الطريق بلهفة، تتكون في مخيلته مشاهد استقباله بقريته، مستذكرًا كل الوجوه التي تنتظره على سفح الوادي القريب من منزلهم، كانوا كلما تذكروا شيئًا من حبور أمهاتهم وشقيقاتهم تتراقص على شفاههم بسمات متعددة، ثم فجأة يقعون في حفر غادرة، فتنهار الذكريات، وتنتهي حيواتهم، ويعلو نواح أقاربهم المقهورين على عيالهم الذين ما عادوا. اهتز جسدي مثل شجرة خوخ وأدركت يديّ السائق البدوي تنتزعني من شرود حزين، ومضيت، أغمضت عينيّ، غير أن المشهد السعيد تلألأ مثل واحة بعيدة لظامئ تاه في فيفاء قائظة، كانت معدات ضخمة تتناوب على إعادة سفلتة هذا الطريق الموحش بدعم مباشر من البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن، وقعت وزارة الأشغال العامة أخيرًا اتفاقًا مع البرنامج السعودي الذي اتفق بدوره مع مقاولين يمنيين ذوي معايير عالية وقدرات لوجستية تسمح لهم بالعمل الفوري على إعادة بناء الطريق الاسفلتي.
اليمن كبيرة، كبيرة جدًا، وأغلب ما فيها كان فاشلًا، رصدت جهات دولية عدة أن الخراب الإداري بدأ في العام 2006، قبل أن يبدأ التأزم السياسي الذي وصل ذروته باحتجاجات 2011 بما قضى على الآمال القريبة باستعادة الدولة قدرتها على النجاح، ومنذ تلك اللحظات لم تتوقف السعودية عن الدعم السخي لليمن، غير أن بلادي تحتاج إدارة حقيقية تستوعب هذه التنمية بتركيز عالٍ وإخلاص حقيقي يخفف عن الناس تعاستهم، وينشر الأمل في وجوههم، كما تنشر البذور في أرض خصبة فواحة النعيم.
جاء دور الوديعة السعودية الأضخم، للحفاظ على استقرار سعر صرف الريال اليمني، ولم أكن بارعًا في الأرقام كعادتي السيئة مع الرياضيات، غير أني أدركت أن أكثر من ملياري دولار لم تكن مبلغًا هينًا، وهبته المملكة عن طيب خاطر إلى البنك المركزي اليمني، كانت السعودية أحق بالمبلغ الضخم وهي تواجه جائحة كورونا، وتتعرض للإغلاق التام لسنة كاملة تقريبًا أسوة بباقي حكومات العالم التي قدرت أن العناية بمواطنيها أصل وسبب وجودها.
الكرم بات عملة نادرة، لا أحد يمكن أن يقدم هذا السخاء، يمكن لكل متحاذق أن يطوف بطائرته الدول الغنية، والدول الأخرى التي تجاهر بمحبتها لليمن، ستجد أن ما قد تهبه لك يرتبط بمصلحة مؤذية، مع السعودية تربطنا المصالح أيضًا، لكنها مصالح حسن الجوار، وإصرارها على ألا تتحول اليمن إلى أداة مؤذية لها، وهذا ما فهمه البعض، واستغله البعض الآخر لابتزاز المملكة، وما زلنا بحاجة إلى الإيمان بأن وجودنا وكرامتنا وسعادتنا لن تتحقق ما لم يكف المجرمون عن الإصرار على القتال، والاندفاع المخلص إلى طاولة مفاوضات جادة بنوايا حسنة، وسرائر لا تبطن المكر.
كانت الأرقام تبدو أمامي وكأن لها روحا، ما تلبث أن تنسل من شاشة العرض لتدور حولي. في تطوافي إلى أماكن الإنشاءات، وزيارة مكاتب البرنامج في عدن وسيئون وميدي «حجّة» ومأرب والمكلا، - لم أتمكن من زيارة سقطرى - كنت أفتش عن الفرح في وجوه المستفيدين، وكانوا سعداء، لم تصلهم خيرات بلادهم الأساسية، كان المال السابق يتدفق إلى جيوب لاهية عابثة، ولم تدع «ندى الدوسري» جهدًا في إظهار مدى أهمية برنامج مثل هذا لحياة اليمنيين. وفي العمق، كانت الشرعية تتعرض لقضمات عسكرية خطيرة على الأرض، فيما السياسة تلعب أقذر قدراتها إلى حتف مجنون، وتمنيت لو أنها توقفت، وسكنت أصوات المدافع، وخفت أنين الجرحى ونواح الأرامل العابر لحدود الشمس، كي تستقر التنمية فقط، ويشمر اليمانيون عن سواعدهم لبناء بلدهم بالطريقة الصادقة، وأن يذهب كل قرش من أموال المنح والمساعدات إلى الإعمار والتنمية. أن نستثمر في عقول الشباب الذين تتزايد أعدادهم بين صريع وجريح وهارب ومغترب ولاجئ.
حين غادرت، كانت الرياض تشع بألوان لازوردية، وتلمع على الكثبان الصحراوية البعيدة قصة إصرار جعلت هذه العاصمة دوحة غناء، مليئة بالأبراج والمرايا، والدهشة والأناقة، قصة يجب أن يتعلمها ويتقنها كل قلب نقي وكل يدٍ بيضاء تريد لبلدها العلو ولمبانيه البريق ولشوارعه الاتساع ولأهله السعادة والأمل والأمان.