كان وحيد أمه، ولا أحد يعرف أباه، وفي ظل عناية الوالدة به، وإيثاره باللُقمة، والجُغمة، انفتلت عضلاته، وأحقل شاربه، فاستشعر مسؤوليته تجاه الصدر الحنون، ونزل للعمل في مزارع القرية، ومساعدة المزارعين، على جني المحاصيل، ونقلها للسوق، بما قُسم، وفي موسم جذّ عذوق النخل يديّح ويلا الشرق، ليحضّر مع التّمَارة، ويعود بالخُرفة، وذات مساء، تعلّق بالشاحنات، واشتغل معاوناً لسائق، يمسح ويغسل ويغيّر الكفر والزيت، و(ذا ما يغبّر شاربه ما دسّمه).
والدته الطيّبة، وافدة على القرية من إحدى قُرى الجنوب، وكانت مضرب مثل في الجمال والدلال، وتتقن حياكة الجُباب، خصوصاً المحمّرة، تجمع أصواف الغنم، من كل بيت، وتنفشها بالمنفاش، ثم تبرمها بالمغزل الذي تُحرّك عصاه بباطن كفها على فخذها بطريقة لولبية، وتنقع الأصواف في الماء، وتضيف لها الأصباغ، وطالما شدّت انتباه الصغار، بتشبيك الخيوط على (المسادي) وتلحيمها بالمشط، بينما قربة ماء سبيل على باب البيت ليشرب الظامي والحامي.
صافق ابنها (شِدقان) بعمره، وقامر بأيامه في كل حِلّه ومِلّه، ومارس أعمالاً لا تتوافق مع طموحه، ولم يفلح كما توقّع، فحمّل الحظ العاثر مسؤولية معاناته، مردداً (ادّع بحظ وإلا فاسترح).
كان العريفة يزورها ويتفقدها، ويحمل لها يوماً فاكهة، ويوماً لحمة بايتة، ويمرر لها رغبته في الاقتران، موظّفاً الأمثال لكسب موافقتها (حليل مرة دون رجال، وحليل رجّال بدون مرة)، (والمرة بدون رجّال، مثل الخُبزة من غير بِلال)، وهي تتناول منه ما تمد يمينه بخفر، وتتبسم لتعبّر عن قناعتها بما يقول، وتفرش له شملة قدام الباب، وتضع أمامه الدّلة المهيّلة وتقول؛ تقهو ما انته غريب، فيتهيّض ويجر الصوت بطرق الجبل (يا ليتني مسواك من تحت الثنايا، والا مفارد في أياديه، والا يُكنّي مرقده ذا يختلي فيييييه، والله يشهد ما معي كيد وخيانات) وهي تحمّل معه بآخر محراف.
عاد (شِدقان) بعد غُربة ما زادت عن حدّها، ووجد حلوة اللبن، مشغولة بقوت لا يموت.. فتأسّف لها كونه ما بيّض وجهها، فقالت: إن كان تبغي مثمر الشور، افلح للعريفة، واسمع منه، وحط كلامه خرزة في إذنك، وهو بيسبّعك، ولا تقول لكل ما يقوله؛ لا.
تناوش المساريب، ولقي العريفة متوسّد ذراعه، فوق مدماك الساحة، المطلة على الوادي، وعمامته في حثله، وصلعته تلمع تحت وهج شمس الظهيرة، وبراد أبو أربعة مصبوب، وسيجارة العثري دخانها متطاير، فأعطاه أخباره وعلومه، وتظلّم من جور الأيام عليه، فقال له: حيّاك الله وعلمك، ولا تشكي لي وابكي لك، وإن كنّك بتعطيني أمك، فلك عليّه لأعزّك وأرزّك، وأخليك عين عُنّة، وطلاقي من هذي الركبة يا كلامك، ليمشي عليّه قبل ما يمشي على الصغير والكبير.
انتقل العريفة، لمنزل العروس، فملأ لـ(شدقان) قِشبي حنطة، وقطف قهوة بحوايجها، وأرسله لفقيه، يجمع ويفرّق، وأوصاه يلازمه في بيته شهراً، حتى يتقن الفقاهة على أصولها، ويعرف كيف يفك ويُلّك، ولا يعوّد عليه إلا وقد قصّر ثوبه، وربّى دقنه، وحف به شاربه، ثم يكسيه رأسه، والباقي على ربي.
عاد (شدقان) عليهم، غير اللي أفلح من عندهم، مكحّل عيونه، والسواك ما يندر من ثمّه، ولا يرفع نظره عن الأرض، ويتمتم بشفتيه بكلام غير مفهوم للسامع ليوهمهم أنه يذكر الله، فقال عمه العريفة؛ إما ذلحين، هيّا نصلّي في المسيد، وهناك تسمع ما يسرّك.
منذ ظهر ذلك اليوم غدا (شدقان)، فقيه القرية، ويخرّج الجنّ من المغزّلة، ويعقد للزواج، ويطهّر المواليد، ويصلح بين الخصوم، ودلّال نسوان، ومربّي نحلاً، ومقتني حلالاً، ووصياً على الأيتام، وتحت مظلة العريفة وبركات دقنه، ما عاد يدري منين ترغي الراغية، تكاثر مرزقه، وزادت عليه المداخيل، وصار يتربع صدور المجالس، وكلما ناداه منادٍ باللقب الجديد، أخرج توتيا من جيبه، ودهن كفوف الحضور.
انفتحت شهيته للدُنيا، فبنى البيوت، واقتنى المشاديد، ويتزوّج ويطلّق، مردداً (الله يجعلني الذيب وهنّ الغنم) ويستقبل الممسوسين، واللي جنّها يستعصي عليه، يحجبها في عُليّة مظلمة أربعين يوم وما يدخل عليها إلا هو، ويوم بعد يوم، صار له لسان، وشأن، ينافس العريفة، ويسبقه بالكلام، ويتدخل في كل شاردة وواردة، ويحل ويربط دون شوره، فأخذ العريفة في خاطره عليه، وتعقّبه، حتى تيقن أن يده طالت، وريقته سالت، وذمته شالت، فحرّض المؤذن، وقال: اهتك ستره، لا رحم الله مَن يحماه، فتسامعت القرية، أنه خرج عن حدود اللياقة والأدب، فانكشفت أوراقه، ودارت عليه الدواير، وما أيّس بها العريفة.
استدعاه، وقال: إنت هِلامة، والرمادة ما حد يقوّزها، انفضح سرّك، وتحمّلت شرهتك، ولو ما هي حشمة أمك ما عاد تقعد في قريتنا، وترى الربع ما يشتون منك الزفرة، وما عاد لقبسك وارية، والجماعة لو تزيد تخطّي رجلك باب المسيد، ليتعترشونك تعتراش الذيب لكثيرة الشحم، خبت وخاب من يحمى فيك، يا بوّال في مرقده.
سأله: وش السواة يا عمّ، فأجابه: إن كان ودك بمن يحمي جنبك، ويحفظ مقامك، وما يتعرّضك مخلوق منهم، فترفع إيدك عن كل صغيرة وكبيرة. قال: يا عريفتنا، بديت بأمي، وانتهيت بمالي وحلالي. فقال له: أحمد ربك يا التِّرْب، إني بأوفّر منامك، ولقمتك، وهدمتك. قال شدقان: ما هِلّا تيه، فقال: وملزّ فوقها.
أخذ به، لين ما خلا، لا فوقه، ولا تحته، وزاده ليخرسه؛ الرجّال إذا مُدح يقتصر، واللي ما يمزى من الله، ما تمزى منه الناس، وذات صباح، دخل (شدقان) على أمه، ما في وجهه شعرة، فسألته أمه: وشبك زلقتها؟. فجاوبها: دقن ما تحتها فلوس، ما لها إلا الموس.
والدته الطيّبة، وافدة على القرية من إحدى قُرى الجنوب، وكانت مضرب مثل في الجمال والدلال، وتتقن حياكة الجُباب، خصوصاً المحمّرة، تجمع أصواف الغنم، من كل بيت، وتنفشها بالمنفاش، ثم تبرمها بالمغزل الذي تُحرّك عصاه بباطن كفها على فخذها بطريقة لولبية، وتنقع الأصواف في الماء، وتضيف لها الأصباغ، وطالما شدّت انتباه الصغار، بتشبيك الخيوط على (المسادي) وتلحيمها بالمشط، بينما قربة ماء سبيل على باب البيت ليشرب الظامي والحامي.
صافق ابنها (شِدقان) بعمره، وقامر بأيامه في كل حِلّه ومِلّه، ومارس أعمالاً لا تتوافق مع طموحه، ولم يفلح كما توقّع، فحمّل الحظ العاثر مسؤولية معاناته، مردداً (ادّع بحظ وإلا فاسترح).
كان العريفة يزورها ويتفقدها، ويحمل لها يوماً فاكهة، ويوماً لحمة بايتة، ويمرر لها رغبته في الاقتران، موظّفاً الأمثال لكسب موافقتها (حليل مرة دون رجال، وحليل رجّال بدون مرة)، (والمرة بدون رجّال، مثل الخُبزة من غير بِلال)، وهي تتناول منه ما تمد يمينه بخفر، وتتبسم لتعبّر عن قناعتها بما يقول، وتفرش له شملة قدام الباب، وتضع أمامه الدّلة المهيّلة وتقول؛ تقهو ما انته غريب، فيتهيّض ويجر الصوت بطرق الجبل (يا ليتني مسواك من تحت الثنايا، والا مفارد في أياديه، والا يُكنّي مرقده ذا يختلي فيييييه، والله يشهد ما معي كيد وخيانات) وهي تحمّل معه بآخر محراف.
عاد (شِدقان) بعد غُربة ما زادت عن حدّها، ووجد حلوة اللبن، مشغولة بقوت لا يموت.. فتأسّف لها كونه ما بيّض وجهها، فقالت: إن كان تبغي مثمر الشور، افلح للعريفة، واسمع منه، وحط كلامه خرزة في إذنك، وهو بيسبّعك، ولا تقول لكل ما يقوله؛ لا.
تناوش المساريب، ولقي العريفة متوسّد ذراعه، فوق مدماك الساحة، المطلة على الوادي، وعمامته في حثله، وصلعته تلمع تحت وهج شمس الظهيرة، وبراد أبو أربعة مصبوب، وسيجارة العثري دخانها متطاير، فأعطاه أخباره وعلومه، وتظلّم من جور الأيام عليه، فقال له: حيّاك الله وعلمك، ولا تشكي لي وابكي لك، وإن كنّك بتعطيني أمك، فلك عليّه لأعزّك وأرزّك، وأخليك عين عُنّة، وطلاقي من هذي الركبة يا كلامك، ليمشي عليّه قبل ما يمشي على الصغير والكبير.
انتقل العريفة، لمنزل العروس، فملأ لـ(شدقان) قِشبي حنطة، وقطف قهوة بحوايجها، وأرسله لفقيه، يجمع ويفرّق، وأوصاه يلازمه في بيته شهراً، حتى يتقن الفقاهة على أصولها، ويعرف كيف يفك ويُلّك، ولا يعوّد عليه إلا وقد قصّر ثوبه، وربّى دقنه، وحف به شاربه، ثم يكسيه رأسه، والباقي على ربي.
عاد (شدقان) عليهم، غير اللي أفلح من عندهم، مكحّل عيونه، والسواك ما يندر من ثمّه، ولا يرفع نظره عن الأرض، ويتمتم بشفتيه بكلام غير مفهوم للسامع ليوهمهم أنه يذكر الله، فقال عمه العريفة؛ إما ذلحين، هيّا نصلّي في المسيد، وهناك تسمع ما يسرّك.
منذ ظهر ذلك اليوم غدا (شدقان)، فقيه القرية، ويخرّج الجنّ من المغزّلة، ويعقد للزواج، ويطهّر المواليد، ويصلح بين الخصوم، ودلّال نسوان، ومربّي نحلاً، ومقتني حلالاً، ووصياً على الأيتام، وتحت مظلة العريفة وبركات دقنه، ما عاد يدري منين ترغي الراغية، تكاثر مرزقه، وزادت عليه المداخيل، وصار يتربع صدور المجالس، وكلما ناداه منادٍ باللقب الجديد، أخرج توتيا من جيبه، ودهن كفوف الحضور.
انفتحت شهيته للدُنيا، فبنى البيوت، واقتنى المشاديد، ويتزوّج ويطلّق، مردداً (الله يجعلني الذيب وهنّ الغنم) ويستقبل الممسوسين، واللي جنّها يستعصي عليه، يحجبها في عُليّة مظلمة أربعين يوم وما يدخل عليها إلا هو، ويوم بعد يوم، صار له لسان، وشأن، ينافس العريفة، ويسبقه بالكلام، ويتدخل في كل شاردة وواردة، ويحل ويربط دون شوره، فأخذ العريفة في خاطره عليه، وتعقّبه، حتى تيقن أن يده طالت، وريقته سالت، وذمته شالت، فحرّض المؤذن، وقال: اهتك ستره، لا رحم الله مَن يحماه، فتسامعت القرية، أنه خرج عن حدود اللياقة والأدب، فانكشفت أوراقه، ودارت عليه الدواير، وما أيّس بها العريفة.
استدعاه، وقال: إنت هِلامة، والرمادة ما حد يقوّزها، انفضح سرّك، وتحمّلت شرهتك، ولو ما هي حشمة أمك ما عاد تقعد في قريتنا، وترى الربع ما يشتون منك الزفرة، وما عاد لقبسك وارية، والجماعة لو تزيد تخطّي رجلك باب المسيد، ليتعترشونك تعتراش الذيب لكثيرة الشحم، خبت وخاب من يحمى فيك، يا بوّال في مرقده.
سأله: وش السواة يا عمّ، فأجابه: إن كان ودك بمن يحمي جنبك، ويحفظ مقامك، وما يتعرّضك مخلوق منهم، فترفع إيدك عن كل صغيرة وكبيرة. قال: يا عريفتنا، بديت بأمي، وانتهيت بمالي وحلالي. فقال له: أحمد ربك يا التِّرْب، إني بأوفّر منامك، ولقمتك، وهدمتك. قال شدقان: ما هِلّا تيه، فقال: وملزّ فوقها.
أخذ به، لين ما خلا، لا فوقه، ولا تحته، وزاده ليخرسه؛ الرجّال إذا مُدح يقتصر، واللي ما يمزى من الله، ما تمزى منه الناس، وذات صباح، دخل (شدقان) على أمه، ما في وجهه شعرة، فسألته أمه: وشبك زلقتها؟. فجاوبها: دقن ما تحتها فلوس، ما لها إلا الموس.