لم يكن المتابع ليتوقع في جميع أقطار العالم أنّ بوابة الوصل بين الأطياف اليسارية والإسلاموية ستكون أنشوطة بيد الحوثي، حتى صار جلياً أنّ العلاقة بين أصحاب هذين التوجّهين قد تختلف على كل شيء، إلا في الحنان الجارف الذي ينتابها تجاه عبدالملك المارِق ورفاقه.
فقبل عشَرة أعوام، عندما بدأت الهجمة الحوثية على طلاّب الحديث في صعدة ودماج، تَشاغَل الطيف اليساري والإسلامي مع مَن تشاغلوا عن الأمر برمّته، وقبل ذلك في الحروب اليمنية الستة ضد الحوثيين، لم يجد الجيش اليمني مِن حكومته ولا مِن نفسه القوّةَ ولا الإرادةَ الكافية لردع الهبوط الحوثي السّلالي من الجبال إلى ميادين المُدُن اليمنية، حتى حين تطاول الحوثيون واقتحموا الحدود السعودية، واعتدوا على «جبل دخان»، انشغلت التيارات اليسارية العربية والإسلاموية عن ذلك تشاغلاً كاملاً، مع أنّ تلك اللحظة كانت من اللحظات النادرة المتاحة والمفتوحة حقيقةً للتوحّد الإنساني والعربي على قضية واحدة، هي: إنقاذ دمّاج من حصار طائفيّ سُلاليّ يهدّد بإزالة التعددية الدينية والثقافية في صعدة ومحيطها من الوجود، وكانت تلك لحظة تستحق أن ينعقد عليها الإجماع، وإنْ تشعبت القضايا وافترقت الأهواء. لكنّ ما حصل هو العكس، ففي مثل ليالي الشتاء هذه التي نحن فيها الآن، وقبل سبعةِ أعوام، بدأ الآلاف من أهالي دمّاج النزوح منها مع أسرهم، ونحو 12 ألف طالب من نحو 50 جنسية، باتجاه العاصمة صنعاء، للنجاة بأرواحهم، بعد اتفاق رعَتْه الحكومة آنذاك.
كانت تلك لحظةً غائبة مِن حساب التاريخ، أعني: لحظة إجلاء طلاّب مدرسة صغيرة، يتكوّن تلاميذها من عشرات الجنسيات العربية والأجنبية، ويومَها أكّد رئيس اللجنة الرسميّة المكلّفة من الحكومة اليمنية بإنهاء القتال بين الحوثيين والسلفيين بدماج، أنّ لجنته بدأت في تجميع جثث 97 من قتلى الطلَبة الذين أرْدَتهم ميليشيات الحوثي.
وفي تلك الآونة، وقبلَها، وبعدَها، ظلّ الخطاب العربي اليساري تجاه الحوثيين محيِّراً، يميل إلى التشاغل عن الحوثي، وأحياناً إلى تلميعه، بل إن بعض الكُتّاب المعروفين في دول عربية كتبوا عنه مقالات أشبه بالمغازلة عن بُعد.
بعد ذلك اندلعت الثورة اليمنية، وبسِحر ساحِر، اتّحدَت بعض التيارات اليسارية والإسلاموية في اليمن، ورحّبت بانضمام الحوثي معها ضد النظام، دون أن تدرك خطورته وسُمّيّة لعبته الأفعويّة في هذه الثورة، وكان ذلك تجسيداً حقيقياً لهذا التخاذل مع الحوثي، الذي يصبح تسامحاً عند الحاجة، وتحالفاً عند الضرورة.
وأخيراً، وبعد الزحف الحوثي تجاه عمران، اكتشف أتباع تنظيم الإخوان أن السِّحر ينقلب عليهم، وسقَط حزب الإصلاح، وهربَت توكُّل كرمان وأصدقاؤها ومشايخُها، وقصدوا دولاً عدة، على وقع ابتهاج المتعاطفين مع الرئيس اليمني السابق بقضاء الحوثيين على رفاقهم في الثورة.
يبدو الأمر جلياً، فكأنما الحوثي هو الوحيد في محيطنا الإقليمي الذي يمتلك مفاتيح التساهل والتسامح معه وقتما شاء، فهو يستطيع التحالف مع الإخوان ضد النظام في اليمن، ثم يستطيع التحالف مع النظام السابق وأنصاره ضد الإخوان، ثم يستطيع أن يضمّ إلى صفه، بعد ذلك، متعاطفين من الإخوان ومن اليساريين الذين يناوئونه في الجَنوب، وكلّ هؤلاء راضون بأن يكونوا ألعوبة في يده، لا لشيء، إلا أنه يتيح لهم التنفيس عن مشاعرهم المعادية، وربّما الغَيرَى من انتصارات التحالف العربية لدعم الشرعية وإنجازاته.
اللافت للنظر من مخرجات هذا الاستعراض السريع لأحداث الزحف الحوثي أننا بدأنا نشكّ في أن ثمة أناساً من الأطياف اليسارية والإسلاموية ما زالوا لا يدركون خطورة الاستحواذ الإيراني على اليمن على حقيقتها، مع أن المفترَض أن يكون واقعهم بخلاف ذلك تماماً.
ذلك أنّ من المعتاد أن الحركات الدينية المتطرفة (مثل ميليشيا الحوثي) حين تزحف وتسيطر على العواصم فإن ذلك يستنفر كل دول الجوار ويثير القلق، ويدور الاهتمام حول أمرين، الأول: أمن هذه العواصم والمدن التي تقتحمها هذه الميليشيات المتشددة، والثاني: الأثر الخطير للصبغة الطائفية التي ستحكم بها هذه الميليشيات المدن التي تدخلها، ثم اتّساعها وتمددها في محيطها الإقليمي بعد ذلك، وما شعار «باقية وتتمدّد» عنا ببعيد.
هذان الأمران يكادان يكونان غائبين تماماً في خطاب اليساريين والإخوانيين عند حديثهم عن الحوثي وتدميره المستمرّ للمدن اليمنية، منذ عدوانه على الشرعية، وحتى هذه اللحظة التي تتعالى فيها صيحات بعضهم بإيقاف الفتنة في اليمن، وليست فتوى الددو الأخيرة ولا صيحات الماركسي فهمي اليوسفي بآخر نتاج هذا التخلّف في استشراف المستقبل.
إن هذا هو ما يجعلنا نوجه هذا السؤال المهم إلى بعض يساريي العرب وإخوانهم على وجه الخصوص:
ماذا لو أن «أنصار الشريعة» (القاعدة) هٌم من كانوا يحتلّون صنعاء والحديدة وغيرهما؟ وما الفرق بينهم وبين «أنصار الله» (الحوثيين)؟ و«أنصار الشريعة» الظواهريين؟ أم أنّ تطرّف ووحشية «الظواهري» مرفوضان، وتطرّف ووحشية «خامنئي» كُتب لهما أن يظلاّ مقبولَين حتى إشعار آخر؟!
فقبل عشَرة أعوام، عندما بدأت الهجمة الحوثية على طلاّب الحديث في صعدة ودماج، تَشاغَل الطيف اليساري والإسلامي مع مَن تشاغلوا عن الأمر برمّته، وقبل ذلك في الحروب اليمنية الستة ضد الحوثيين، لم يجد الجيش اليمني مِن حكومته ولا مِن نفسه القوّةَ ولا الإرادةَ الكافية لردع الهبوط الحوثي السّلالي من الجبال إلى ميادين المُدُن اليمنية، حتى حين تطاول الحوثيون واقتحموا الحدود السعودية، واعتدوا على «جبل دخان»، انشغلت التيارات اليسارية العربية والإسلاموية عن ذلك تشاغلاً كاملاً، مع أنّ تلك اللحظة كانت من اللحظات النادرة المتاحة والمفتوحة حقيقةً للتوحّد الإنساني والعربي على قضية واحدة، هي: إنقاذ دمّاج من حصار طائفيّ سُلاليّ يهدّد بإزالة التعددية الدينية والثقافية في صعدة ومحيطها من الوجود، وكانت تلك لحظة تستحق أن ينعقد عليها الإجماع، وإنْ تشعبت القضايا وافترقت الأهواء. لكنّ ما حصل هو العكس، ففي مثل ليالي الشتاء هذه التي نحن فيها الآن، وقبل سبعةِ أعوام، بدأ الآلاف من أهالي دمّاج النزوح منها مع أسرهم، ونحو 12 ألف طالب من نحو 50 جنسية، باتجاه العاصمة صنعاء، للنجاة بأرواحهم، بعد اتفاق رعَتْه الحكومة آنذاك.
كانت تلك لحظةً غائبة مِن حساب التاريخ، أعني: لحظة إجلاء طلاّب مدرسة صغيرة، يتكوّن تلاميذها من عشرات الجنسيات العربية والأجنبية، ويومَها أكّد رئيس اللجنة الرسميّة المكلّفة من الحكومة اليمنية بإنهاء القتال بين الحوثيين والسلفيين بدماج، أنّ لجنته بدأت في تجميع جثث 97 من قتلى الطلَبة الذين أرْدَتهم ميليشيات الحوثي.
وفي تلك الآونة، وقبلَها، وبعدَها، ظلّ الخطاب العربي اليساري تجاه الحوثيين محيِّراً، يميل إلى التشاغل عن الحوثي، وأحياناً إلى تلميعه، بل إن بعض الكُتّاب المعروفين في دول عربية كتبوا عنه مقالات أشبه بالمغازلة عن بُعد.
بعد ذلك اندلعت الثورة اليمنية، وبسِحر ساحِر، اتّحدَت بعض التيارات اليسارية والإسلاموية في اليمن، ورحّبت بانضمام الحوثي معها ضد النظام، دون أن تدرك خطورته وسُمّيّة لعبته الأفعويّة في هذه الثورة، وكان ذلك تجسيداً حقيقياً لهذا التخاذل مع الحوثي، الذي يصبح تسامحاً عند الحاجة، وتحالفاً عند الضرورة.
وأخيراً، وبعد الزحف الحوثي تجاه عمران، اكتشف أتباع تنظيم الإخوان أن السِّحر ينقلب عليهم، وسقَط حزب الإصلاح، وهربَت توكُّل كرمان وأصدقاؤها ومشايخُها، وقصدوا دولاً عدة، على وقع ابتهاج المتعاطفين مع الرئيس اليمني السابق بقضاء الحوثيين على رفاقهم في الثورة.
يبدو الأمر جلياً، فكأنما الحوثي هو الوحيد في محيطنا الإقليمي الذي يمتلك مفاتيح التساهل والتسامح معه وقتما شاء، فهو يستطيع التحالف مع الإخوان ضد النظام في اليمن، ثم يستطيع التحالف مع النظام السابق وأنصاره ضد الإخوان، ثم يستطيع أن يضمّ إلى صفه، بعد ذلك، متعاطفين من الإخوان ومن اليساريين الذين يناوئونه في الجَنوب، وكلّ هؤلاء راضون بأن يكونوا ألعوبة في يده، لا لشيء، إلا أنه يتيح لهم التنفيس عن مشاعرهم المعادية، وربّما الغَيرَى من انتصارات التحالف العربية لدعم الشرعية وإنجازاته.
اللافت للنظر من مخرجات هذا الاستعراض السريع لأحداث الزحف الحوثي أننا بدأنا نشكّ في أن ثمة أناساً من الأطياف اليسارية والإسلاموية ما زالوا لا يدركون خطورة الاستحواذ الإيراني على اليمن على حقيقتها، مع أن المفترَض أن يكون واقعهم بخلاف ذلك تماماً.
ذلك أنّ من المعتاد أن الحركات الدينية المتطرفة (مثل ميليشيا الحوثي) حين تزحف وتسيطر على العواصم فإن ذلك يستنفر كل دول الجوار ويثير القلق، ويدور الاهتمام حول أمرين، الأول: أمن هذه العواصم والمدن التي تقتحمها هذه الميليشيات المتشددة، والثاني: الأثر الخطير للصبغة الطائفية التي ستحكم بها هذه الميليشيات المدن التي تدخلها، ثم اتّساعها وتمددها في محيطها الإقليمي بعد ذلك، وما شعار «باقية وتتمدّد» عنا ببعيد.
هذان الأمران يكادان يكونان غائبين تماماً في خطاب اليساريين والإخوانيين عند حديثهم عن الحوثي وتدميره المستمرّ للمدن اليمنية، منذ عدوانه على الشرعية، وحتى هذه اللحظة التي تتعالى فيها صيحات بعضهم بإيقاف الفتنة في اليمن، وليست فتوى الددو الأخيرة ولا صيحات الماركسي فهمي اليوسفي بآخر نتاج هذا التخلّف في استشراف المستقبل.
إن هذا هو ما يجعلنا نوجه هذا السؤال المهم إلى بعض يساريي العرب وإخوانهم على وجه الخصوص:
ماذا لو أن «أنصار الشريعة» (القاعدة) هٌم من كانوا يحتلّون صنعاء والحديدة وغيرهما؟ وما الفرق بينهم وبين «أنصار الله» (الحوثيين)؟ و«أنصار الشريعة» الظواهريين؟ أم أنّ تطرّف ووحشية «الظواهري» مرفوضان، وتطرّف ووحشية «خامنئي» كُتب لهما أن يظلاّ مقبولَين حتى إشعار آخر؟!