لن ينسى الجيل الذي بلغ السبعين من العمر (البَدْوَة)، إذ كان يصعد أحد جهوريّ الأصوات يوم السوق على سطح دكاكين أسواق مُدن الجنوب، وينادي بأعلى صوته (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) فيردد كل السامعين معه شهادة التوحيد، ثم يسرد عليهم من الكلام المسجوع، غير المعهود، ما يأسر ألباب بعضهم، ويزيد البعض نفوراً كونه مشغولاً بقوت يومه.
مرّ على المسلمين زمن يفرحون فيه بواعظ يمرّ بهم في الشهر أو العام مرّة واحدة. كانوا يحتفون بأهل الله كما يُطلقون عليهم، والبعض منهم له كرامات وتنبؤات عِرفانية، منها الكشف عن زمن (يتكلم فيه الحديد، ويبتعد القريب، ويقترب البعيد، ويمتد ثعبان أسود على طول الأرض وعرضها يأكل الناس) فسرها الذين أدركوا ذاك الزمان وما بعده بالمذياع، والهاتف، والأسفلت.
أعقبت زمن الطيّبين، (ولكل زمن طيّبوه وطيّباته)، حِقبة وعظ مبرمج فائض عن الاحتياج؛ اجتاحت موجته العالم الإسلامي، ووفّرت فيها الحكومات لكل مواطن واعظاً، إلا أن الوعظ لم يُنتج مجتمعاً ملائكياً، كما لم يتسبب غياب الوعّاظ في تحوّل المجتمع إلى شياطين.
مما أضعف الموعظة الشرعية؛ اختلاط موضوعها؛ بذات الواعظ، وإقحام فهمه، ومشاعره، وقناعاته الخاصة، أو قناعات غيره، وطموحاته أو طموحات سواه، على روح الوعظ الشفيفة، التي هي في أصلها (قال الله. قال رسوله) دون أي إضافات تُفسد العبق الروحاني. وهل كلام الواعظ أجمل وأبلغ وأوقع من كلام الله؟
ما يجعل الموعظة مؤثرة (صدق الواعظ)، وإرادته الخير للناس، واختيار الألفاظ والعبارات المنتشلة لسامعيه من علائق الدُنيا للتعلّق بربّ العالمين، وليس كل المتلقين بمستوى واحد في الإفادة من الموعظة وتمثلها؛ وفي الحديث المتفق عليه «مَثَل مَا بعَثني اللَّه بِهِ منَ الْهُدَى والْعلْمِ كَمَثَل غَيْثٍ أَصَاب أَرْضاً فكَانَتْ طَائِفَةٌ طَيبَةٌ قبِلَتِ الْمَاءَ فأَنْبَتتِ الْكلأَ والْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمسكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّه بِهَا النَّاس فَشَربُوا مِنْهَا وسَقَوْا وَزَرَعوا. وأَصَابَ طَائِفَةٌ مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينَ اللَّه، وَنَفَعَه بمَا بعَثَنِي اللَّه بِهِ، فَعَلِمَ وعَلَّمَ، وَمثلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأْساً وِلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ».
هناك بلدان؛ عدد سكانها بمئات الملايين، وشعبها مهتد؛ يعمل وينتج ويبدع، دون مواعظ ولا وُعاظ؛ ومنهم المخترعون والمبدعون والفلاسفة والمفكرون والأطباء، والمتميزون في الوعي والسلوك واحترام النظام.
وهناك بلدان لا يُحصى عدد الوعاظ والمرشدين فيها، ولا اختراع ولا إبداع ولا منجزات ولا رُقي أخلاق ولا تهذيب سلوكيات، سوى كلام التمييز بين الأنام وتوزيع أنصبة الآخرة في الحياة الدنيا، فذاك كافر وذاك منافق وذاك في جهنم، وكأنّ الموزّع ضامن موقعه في عليين، أو كأنما مفاتيح أبواب الجنّة في جيبه.
يحرص العالِم المبدع والمخترع المُنجز على أن تصلك إبداعاته ومنجزاته ؛ دون أن تسمع صوته الطروب، أو ترى صورته الكشخة بالمرزاب والبشت، أو تعرف اسمه المُصدّر بالألقاب المدفوعة والمجانية، ويقدّم أحدث كشوفاته متخذاً من النسبية دريئة، ومنهجاً وآلية لخط الرجعة فيما لو ظهر له لاحقاً أنه أخطأ كونه لا يقينيات ولا مسلّمات عند العلماء ولا قطعيات.
الوعظ وحده لا يعالج تأزمات النفوس البشرية، ومستقبل الوعاظ والخطباء مرهون بالانخراط في دورات نفسية واجتماعية للتدرّب على فنّ المعالجات للسلوكيات وقبيح العادات مما تتعرض له المجتمعات، علماً بأن للقوانين الصارمة فعلها وأثرها والله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
جيل اليوم؛ تقني بامتياز، وميداوي؛ نسبة للميديا؛ ومعرفي باقتدار؛ لا يُسلّم بمعلومة حتى يوزنها بعقله، ويوثقها علمياً وقاموسياً ويعود للبحث في قوقل ليطلع على كل التفاصيل، كما أنه جيل رقمي وكوني ومستقبلي يأنف من جرّه للوراء.
أتساءل؛ هل يمكن لواعظ معاصر أن يأخذ الموعوظين لإماطة الأذى عن طريق، أو تنظيف منتزه من المخلفات، بمعنى تدريب مريديه على السلوك. فالوعظ بالكلام قد يدخل من إذن ويخرج من الأخرى. خلافاً للعملي والسلوكي؛ الذي يترك أثراً، ويقبل للتداول؛ وهذا مما ينفع الناس في زمن تراجعت فيه ثقة البعض في كلام ما عليه جُمرك.
انقدحت فكرة المقال وأنا أقرأ خبر تخريج عدد من العالِمات السعوديات في جامعة كاوست، فألف مبروك للوطن.
مرّ على المسلمين زمن يفرحون فيه بواعظ يمرّ بهم في الشهر أو العام مرّة واحدة. كانوا يحتفون بأهل الله كما يُطلقون عليهم، والبعض منهم له كرامات وتنبؤات عِرفانية، منها الكشف عن زمن (يتكلم فيه الحديد، ويبتعد القريب، ويقترب البعيد، ويمتد ثعبان أسود على طول الأرض وعرضها يأكل الناس) فسرها الذين أدركوا ذاك الزمان وما بعده بالمذياع، والهاتف، والأسفلت.
أعقبت زمن الطيّبين، (ولكل زمن طيّبوه وطيّباته)، حِقبة وعظ مبرمج فائض عن الاحتياج؛ اجتاحت موجته العالم الإسلامي، ووفّرت فيها الحكومات لكل مواطن واعظاً، إلا أن الوعظ لم يُنتج مجتمعاً ملائكياً، كما لم يتسبب غياب الوعّاظ في تحوّل المجتمع إلى شياطين.
مما أضعف الموعظة الشرعية؛ اختلاط موضوعها؛ بذات الواعظ، وإقحام فهمه، ومشاعره، وقناعاته الخاصة، أو قناعات غيره، وطموحاته أو طموحات سواه، على روح الوعظ الشفيفة، التي هي في أصلها (قال الله. قال رسوله) دون أي إضافات تُفسد العبق الروحاني. وهل كلام الواعظ أجمل وأبلغ وأوقع من كلام الله؟
ما يجعل الموعظة مؤثرة (صدق الواعظ)، وإرادته الخير للناس، واختيار الألفاظ والعبارات المنتشلة لسامعيه من علائق الدُنيا للتعلّق بربّ العالمين، وليس كل المتلقين بمستوى واحد في الإفادة من الموعظة وتمثلها؛ وفي الحديث المتفق عليه «مَثَل مَا بعَثني اللَّه بِهِ منَ الْهُدَى والْعلْمِ كَمَثَل غَيْثٍ أَصَاب أَرْضاً فكَانَتْ طَائِفَةٌ طَيبَةٌ قبِلَتِ الْمَاءَ فأَنْبَتتِ الْكلأَ والْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمسكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّه بِهَا النَّاس فَشَربُوا مِنْهَا وسَقَوْا وَزَرَعوا. وأَصَابَ طَائِفَةٌ مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينَ اللَّه، وَنَفَعَه بمَا بعَثَنِي اللَّه بِهِ، فَعَلِمَ وعَلَّمَ، وَمثلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأْساً وِلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ».
هناك بلدان؛ عدد سكانها بمئات الملايين، وشعبها مهتد؛ يعمل وينتج ويبدع، دون مواعظ ولا وُعاظ؛ ومنهم المخترعون والمبدعون والفلاسفة والمفكرون والأطباء، والمتميزون في الوعي والسلوك واحترام النظام.
وهناك بلدان لا يُحصى عدد الوعاظ والمرشدين فيها، ولا اختراع ولا إبداع ولا منجزات ولا رُقي أخلاق ولا تهذيب سلوكيات، سوى كلام التمييز بين الأنام وتوزيع أنصبة الآخرة في الحياة الدنيا، فذاك كافر وذاك منافق وذاك في جهنم، وكأنّ الموزّع ضامن موقعه في عليين، أو كأنما مفاتيح أبواب الجنّة في جيبه.
يحرص العالِم المبدع والمخترع المُنجز على أن تصلك إبداعاته ومنجزاته ؛ دون أن تسمع صوته الطروب، أو ترى صورته الكشخة بالمرزاب والبشت، أو تعرف اسمه المُصدّر بالألقاب المدفوعة والمجانية، ويقدّم أحدث كشوفاته متخذاً من النسبية دريئة، ومنهجاً وآلية لخط الرجعة فيما لو ظهر له لاحقاً أنه أخطأ كونه لا يقينيات ولا مسلّمات عند العلماء ولا قطعيات.
الوعظ وحده لا يعالج تأزمات النفوس البشرية، ومستقبل الوعاظ والخطباء مرهون بالانخراط في دورات نفسية واجتماعية للتدرّب على فنّ المعالجات للسلوكيات وقبيح العادات مما تتعرض له المجتمعات، علماً بأن للقوانين الصارمة فعلها وأثرها والله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
جيل اليوم؛ تقني بامتياز، وميداوي؛ نسبة للميديا؛ ومعرفي باقتدار؛ لا يُسلّم بمعلومة حتى يوزنها بعقله، ويوثقها علمياً وقاموسياً ويعود للبحث في قوقل ليطلع على كل التفاصيل، كما أنه جيل رقمي وكوني ومستقبلي يأنف من جرّه للوراء.
أتساءل؛ هل يمكن لواعظ معاصر أن يأخذ الموعوظين لإماطة الأذى عن طريق، أو تنظيف منتزه من المخلفات، بمعنى تدريب مريديه على السلوك. فالوعظ بالكلام قد يدخل من إذن ويخرج من الأخرى. خلافاً للعملي والسلوكي؛ الذي يترك أثراً، ويقبل للتداول؛ وهذا مما ينفع الناس في زمن تراجعت فيه ثقة البعض في كلام ما عليه جُمرك.
انقدحت فكرة المقال وأنا أقرأ خبر تخريج عدد من العالِمات السعوديات في جامعة كاوست، فألف مبروك للوطن.