-A +A
محمد مفتي
تتميز الكثير من العلوم وخاصة العلوم الاجتماعية بتقاطعها مع بعضها البعض، فلا يمكن النظر بتجرد لبعض العلوم الاجتماعية بمعزل عن العلوم الأخرى وخاصة العلوم السلوكية، وفي علم السياسة نجد أن علم النفس السياسي يمثل ركيزة مهمة في فهم الكثير من المتغيرات السياسية في العالم وفي استيعاب أبعادها، وخاصة في فهم مغزى ودلالة بعض التصريحات التي يدلي بها السياسيون أو أتباعهم، ممن لا يتجرأون على الإدلاء بأي تصريح سواء كان قوياً أو مهادناً بدون الحصول على الضوء الأخضر من الجهات التي تمولهم وتخطط لهم.

في ظل الاضطرابات التي تسود بعض المناطق في العالم -وعلى الأخص منطقة الشرق الأوسط- نجد أننا في أشد الحاجة لتفسير بعض الظواهر والأحداث التي تعصف بالمنطقة تفسيراً صحيحاً للوصول إلى نتائج منطقية تساعدنا في فهم أبعاد القضية، كما أنها تساعد السياسيين أيضاً على اتخاذ القرار المناسب، ولا شك أن غالبية الأحداث الحالية في منطقة الخليج العربي سببها التدخلات الإيرانية في المنطقة بشكل مباشر وغير مباشر، وقد دأبت إيران على نفي صلتها تماماً بما يحدث في المنطقة اعتقاداً منها بأن دول المنطقة غير قادرة على فهم العقلية الإيرانية، التي دأبت على التخفي واستخدام وكلائها في تحقيق مقاصدها السياسية بل والعسكرية أيضاً.


قبل أيام مضت ظهر زعيم حزب الله حسن نصر الله في خطاب متلفز موجه إلى أنصاره، وقد تصادف توقيت خطابه مع مرور الذكرى الثانية لاغتيال قاسم سليماني الذراع العسكرية لنظام طهران في المنطقة، وخلال حديثه كان نصر الله أقرب إلى التشنج منه إلى الوقار والهدوء، وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال كيله الشتائم وتوجيه الاتهامات للمملكة، رغم أن خطابه من المفترض أنه كان موجهاً لتأبين سليماني، والحقيقة أن خطاب نصر الله بحاجة إلى تحليل نفسي أكثر من احتياجه للتفنيد والرد، لأن الادعاءات التي يرددها هي نفسها ما يرددها نظام وحكومة طهران دوماً بمناسبة وبغير مناسبة، مما يطرح العديد من علامات الاستفهام حول المغزى من هذا الخطاب المتشنج وفي هذا التوقيت بالذات.

يدعي نصر الله أن الحكومة الإيرانية لم تتدخل يوماً في لبنان أو غيره، وأن حزب الله هو حزب لبناني الهوى والهوية، وهو ما يناقض تصريحات سابقة له بأن الحزب يلقى كل دعم مالي وعسكري من إيران، وإن كان الحزب لا علاقة له بنظام طهران، فلماذا هذا التباكي والتأبين لأحد أهم قادة طهران في المنطقة قاسم سليماني، والذي كان -بلا شك- همزة الوصل بين النظام الإيراني وبين جميع الأنظمة الموالية له بما فيها حزب الله نفسه.

اللهجة العدائية التي رددها ويرددها نصر الله لا تختلف كثيراً عن لهجة النظام الإيراني، فنصر الله يمثل أحد الجنود الإيرانيين في المنطقة وخاصة في لبنان، ومن الواضح أن لبنان لا يعني الكثير لنصر الله، لأن التبعية العمياء لنظام طهران لا تعني إلا أنه أحد أفراد الطابور الخامس لإيران في قلب العاصمة بيروت، وهو ما يجعلنا نتساءل: هل لبنان متواجد كدولة عضو مستقلة في الجامعة العربية في ظل هيمنة حزب الله على الساحة اللبنانية؟ ونحن على يقين من أن هناك قوى لبنانية تعلم حقيقة نصر الله وحقيقة مشروعه، غير أنها لا تريد أن تخوض فيما تعلم إما خوفاً أو جشعاً.

يحق لنا أن نتساءل عن سبب حدة الخطاب العدائي لنصر الله وخاصة عندما نجد أن خطابه كان موجهاً بالدرجة الأولى للمملكة العربية السعودية، ويبدو أنه من الممكن استشفاف الإجابة على هذا التساؤل في ظل الفشل الذريع للمشروع الإيراني في المنطقة، والذي يعود الفضل فيه لقيادة المملكة الحازمة ودورها في وأد هذا المشروع قبل أن يكتمل بناؤه، ففي ظل الهزائم المتتالية للحوثيين في اليمن وسقوط معاقلهم الواحد تلو الآخر في أيدي القوات الشرعية التي يساندها التحالف العربي بقيادة المملكة، فإن نصر الله يبدو في حالة انهيار كامل وهو يرى أحلامه تتحطم على شموخ وصلابة الصخرة السياسية السعودية.

يعلم نصر الله تماماً أنه ليس أكثر من أداة لتحقيق المشروع الإيراني في المنطقة، وهو ما يفسر بكاءه على قاسم سليماني الذي خطط لزرع بذور الفتنة في العراق وسوريا ولبنان، وقد ذهب إلى غير عودة ومعه مشروعه الذي لم يكتمل، ومن المؤكد أن نصر الله يعلم تماماً أنه بمجرد انتهاء الغرض منه سيلقى مصيراً قد لا يختلف كثيراً عن مصير سليماني، فباستقراء التاريخ الإيراني منذ اندلاع الثورة الخمينية نجد أن إيران قد وظفت العديد من عملائها في المنطقة ثم قامت بالتخلص منهم واحداً تلو الآخر -بشكل أو بآخر- بعد استنفاد الغرض من وجودهم، ولذلك فإن التباكي الذي بدا على محيا نصر الله يدعونا حقاً للتفاؤل بأن النصر بات وشيكاً في اليمن، ولا سيما بعد عودة العراق إلى الحاضنة العربية.