-A +A
عبدالله بن بخيت
على أثر مقالي المعنون (سعد الصويان.. قويريرات الوناسة) المنشور أخيراً في هذه الصحيفة، ثارت نفس الثورات التي كانت تثور علينا عندما كنا نناقش قضية قيادة المرأة السيارة، وإسقاط الولاية عن المرأة «والدشوش»، والصور وقضايا أخرى لا حصر لها. انكشف ما كنا نعلمه أن هذه الأمور لا تؤخذ بمجرد أن طرفاً واحداً من أطراف المجتمع يقررها وينصاع المجتمع بأسره لكلمته.

فتساقطت واحدة بعد الأخرى دون أن نصاب بخلل في عقيدتنا الدينية.


عدد سكان المملكة يتجاوز الثلاثين مليون نسمة، واستقرت عضواً فاعلاً في نادي «مجموعة العشرين» الكبرى اقتصادياً، وأرضها أوسع من قارة. متنوعة التضاريس، وشعبها مضياف، والخطط المعدة لبناء المستقبل طموحة.

مع نهاية العقد الثالث ستصبح المملكة قوة اقتصادية كبرى وواحدة من الوجهات السياحية في العالم، وأستطيع أن أعدد ما حصر له من الأمور التي تجعل المملكة دولة عقلانية تحتكم لمتطلبات العصر وقيمه وقوانينه، لا أن يتحكم في قراراتها عامل منفرد من العوامل المعتبرة لاتخاذ القرارات.

مع الأسف في الماضي القريب تحولت بعض الفتاوى إلى مجموعة من العقبات المتوالية التي توجب علينا أن نتخطاها واحدة تلو الأخرى. وما إن نصل إلى إزالة هذه العقبة تكون البشرية تخطتنا، وما إن نبدأ في المسيرة إلا ونواجه عقبة جديدة علينا أن نتصارع معها لكي نتخطاها.

هكذا سرنا من عقبة إلى عقبة والعالم تخطانا عشرات السنين، لولا شجاعة القيادة السعودية وجديتها في صيانة تقدم البلاد والحس الحضاري والفطري عند الإنسان السعودي العادي، لأصبحنا اليوم خارج العصر نهائياً.

تخيل الآن أن الراديو حرام، التلفزيون حرام، إصدار بطاقة أحوال للمرأة حرام، سياقة المرأة السيارة حرام، جوال الكاميرا حرام، الإنترنت حرام، التصوير حرام، المسجل حرام، السينما حرام، المسرح حرام، السفر لبلاد غير الإسلامية حرام، الاختلاط بين الرجال والنساء حرام، دخول المرأة المصالح الحكومية حرام، التحية العسكرية حرام، الشطرنج حرام، صبغ المرأة شعرها حرام، قص الشعر حسب الموضة حرام، لبس الشورت حرام، اللقاح حرام، تعليم المرأة حرام، لعبة الورق حرام، الدشوش حرام، مشاهدة المسلسلات حرام، البنوك حرام، تعليق الصور في المنازل حرام، بيع النساء ملابس النساء الداخلية حرام، تناول الهامبرجر حرام، سماع الأغاني حرام، الابتعاث حرام، قراءة الروايات حرام، الاحتفال بمناسبة النجاح حرام، إهداء الورد حرام، مشاركة البشرية احتفالاتهم حرام، التبرع بالأعضاء حتى بعد الموت حرام، الدخول على بيت شقيقك في غيابه حرام، قراءة الكتب الفكرية والفلسفية حرام، مصافحة المرأة حرام، إلى ما لا نهاية من الحرام والتحريم. كلما أفلتنا من حرام انتقلنا إلى حرام آخر، وكلما اخترعت البشرية تقنية جديدة نستقبلها بالتحريم على الفور.

في القرنين الماضيين انتقلت البشرية إلى مرحلة وجودية مختلفة عما سبقها من قرون. فقيه القرية أو فقيه الأزمنة القديمة الذي كان يجمع كل المعارف في يده تفكك إلى فقهاء لا حصر لهم. ثمة فقيه اقتصادي وفقيه أمني وفقيه صحي وفقيه تعليمي وفقيه اجتماعي وفقيه إعلامي... إلخ، وهؤلاء الفقهاء أيضًا تفككوا إلى فقهاء أكثر تخصصًا. مع تغير العصور لم نعد نسميهم فقهاء، أصبحنا نسميهم علماء وخبراء ومتخصصين وباحثين وأساتذة جامعات. هؤلاء يمتلكون المعرفة العلمية والمنهج الأكاديمي وقيم العصر، ومزودون بالحقائق والأرقام، هؤلاء يدركون معنى أن يصاب الإنسان بالتسمم الكحولي وضغطه على الأجهزة الصحية وآلام ذويهم، والمليارات التي تصرفها الدولة على رعاية مواطنيها ومحدودية ميزانية الدول مهما بلغ بها الثراء، ويدركون معنى تنامي عصابات التهريب وعصابات غسل الأموال، ويدركون خطورتهم على أمن الوطن وسلامته، وكلنا يعلم أن جميع الرجال والنساء العاملين في الأجهزة الحكومية مسلمون أبناء مسلمين، وجميع من يتخذ القرارات في هذه البلاد مسلمون من أعلى قمة الهرم حتى أدنى درجة. تربوا في بيت مسلم وتعلموا في مدارس مسلمة، لا يحتاجون إلى حارس يقرر نيابة عنهم ما هو الحرام وما هو الحلال، فلا يحق لأحد ولا يستطيع أحد المزايدة عليهم.

القرارات الاستراتيجية في دولة بحجم المملكة ليست مجرد كلمة تلقى، أو أن تأتي في سؤال وجواب في برنامج إذاعي، أو أن تكون تحت سيطرة فئة من فئات المجتمع. كل قرار يتخذ تأتي فتاواه من روافد متعددة وأسباب ودواعي لا حصر لها. ثمة بعد اقتصادي وأمني وصحي واجتماعي ورؤية مستقبلية ونظرة دولية وفوق هذا المملكة متنوعة المذاهب الدينية والمستويات التعليمية والاحتياجات المختلفة.

في النهاية القرار الشامل الأخير هو قرار الدولة التي تتخذ ما تراه حسب حاجة البلاد وأمنها واستقرارها وتقدمها وازدهارها وحماية مكتسباتها.