-A +A
صدقة يحيى فاضل
أتحدث اليوم عن «ظاهرة» تعليمية خطيرة، عايشتها، من حين لآخر، وعند انخراطي في التدريس الجامعي، في بلادنا العزيزة، كانت وما زالت تؤرقني، وتحزنني، بل وتغيظني أيضا، ألا وهي ظاهرة ما يمكن أن نسميه بوجود «نسبة»، لا يستهان بها، من طلاب العلوم الاجتماعية بجامعاتنا بخاصة، ممن لا يعرفون من التعليم إلا اسمه، ولا يريدون سوى «الشهادة الجامعية». فهي، بالنسبة لهم، الوسيلة والغاية. والسبب الرئيس لالتحاقهم بالجامعة غالباً ما يكون «بريستيج» البكالوريوس. أما بذل الجهد للتعلم، واكتساب شيء من المعرفة، فهذا أمر لا حاجة له، طالما بالإمكان الحصول على هذه الشهادة، بأقل جهد ممكن، وبـ«الفهلوة» أحياناً. وفي ذلك استهانة مقيتة بقيمة التعليم والمعرفة، وبمؤسساتها.

وأعتقد أن هذه الظاهرة توجد في البلاد العربية الأخرى، وغيرها. وهذا أمر طبيعي، ما لم تصل نسبة هؤلاء من مجموع الطلاب، نسبة عالية، نسبياً، لتشكل «ظاهرة» سلبية، يجب مكافحتها. كأن تكون من 30- 40% (مثلاً) من مجموع طلاب هذه العلوم، التي قد يستقلها البعض، رغم أن الدول المتقدمة لم تتقدم إلا عندما اعتبرت كل العلوم (الطبيعية، والاجتماعية، والرياضية) على نفس القدر من الأهمية.


شخصياً، بدأت في التدريس الجامعي منذ عام 1983م. وانقطعت عنه طيلة الفترة 2005- 2019م. في المرحلة الأولى، وجدت هذه الظاهرة، ولكن ليس بنفس الحدة والقوة التي تتواجد عليها الآن. وهذا، إن صح، يعنى أن هذه الظاهرة تتفاقم، وتزداد سوءا، مع مرور الزمن دون علاج.

وكلمة «تنبلة»، صفتها بالجمع «تنابلة»، ومفردها «تنبل». وكنا نسمعها من بعض مدرسينا، عندما كنا على مقاعد الدراسة العامة، أو التعليم ما قبل الجامعي. وتعنى: الطالب البليد، الكسول، الذي لا يريد أن يتعلم، ويصعب تعليمه، لضعف في قدراته الذهنية، أو لكراهيته للعلم والمعرفة. وعند مراجعة أحد القواميس العربية- العربية (معجم المعاني الجامع) تبين أن لهذه الكلمة معاني عدة؛ فهي تعنى: التلميذ الكسول، البليد. كما تعنى: الشخص قصير القامة، وتعنى أيضاً: الرجل ذا النبل. وموضوعنا يأخذ بالتعريف الأول. ومن «المؤشرات» الرئيسة على التنبلة، سوء التحصيل العلمي، وعدم الجد في القيام بالواجبات المدرسية والجامعية، ومحبة المدرس/ ‏المدرسة المتساهل (المتسيب) وكراهية المدرس الجاد، ومحاولة التظاهر بـ«الاجتهاد»، واحتكار «مسح السبورة»!.

****

ولا شك أن لهذه الظاهرة أسباباً كثيرة، وليس كسل الطالب وحسب؛ فالمدرسة، والجامعة، والأسرة، والظروف المحيطة بالطالب، كلها -في ظني- عوامل تلعب دوراً معيناً، في نشوء هذه الظاهرة، وتفاقمها من عدمه. وعلماء التربية هم أكثر الناس معرفة بالأمور التعليمية، ومنها ظاهرة «التنبلة»، وهم الأعرف بنتائجها، وسبل القضاء عليها. وفي رأيي المتواضع، فإنني أحمل الأسرة والمدرسة والجامعة، المسؤولية الأكبر، فالتعليم العام يجب أن يكون «إجبارياً» حتى إحدى المراحل. أما الجامعة، أي جامعة، فعليها ألا تقبل الا إلمؤهلين للدراسة الجامعية، ومن يستطيعون مواصلة هذه الدراسة، بدرجة معقولة ومقبولة من الاستيعاب، والأداء.

والجامعة التي تحترم نفسها، ينبغي ألا تقبل التنابلة أصلاً، وأن تلفظ من بلغت درجة «تنبلته» حداً معيناً، وأسوأ ما يساعد التنبل على مواصلة تنبلته هو: التساهل مع أدائه (المتدني) من قبل المدرس والمدرسة، والجامعة، فهذا «التساهل» يؤدى إلى: تمادي التنبل في تنبلته، وإلى إهدار موارد بشرية ومادية كبيرة، تتمثل في «تخريج» جهلاء، غالباً ما يصبحون عبئاً على أنفسهم، وذويهم وبلادهم. وتلك، في ظني، جريمة بحق بلادهم، خاصة عندما تكون هذه البلاد قد وفرت لهم -حال بلادنا- الكثير، كي يتعلموا. يجب أن يكون مقعد الجامعة متوفراً فقط لمن يستحقه، من الطلاب والطالبات المجتهدين، الذين هم على استعداد لبذل الجهد اللازم للتعلم، واكتساب أكبر حد ممكن من المعرفة، كل في مجال تخصصه.

وبعض التنابلة المقتدرين قد يلتحقون بكليات وجامعات خاصة، همها الكسب المالي، لذا، كثيراً ما تتساهل مع هذه الفئة (من زبائنها) كي يستمروا في «الدراسة»، ويتخرجوا بالشهادات المطلوبة، ودون علم، وثقافة الخريج الجامعي الحقيقي. إن النتائج النهائية للتنبلة غالباً ما تكون سلبية جداً، بالنسبة لكل الأطراف المعنية. ومن ذلك، الخسارة الوطنية، التي لا تخفى على المتابع.

****

ومن مظاهر، ومؤشرات «التنبلة» التي مرت على كاتب هذه الأسطر، نذكر ما يلي:

- ضعف المواظبة، وكثرة الغياب، والتأخير، وتقديم الاعتذارات المصطنعة.

- عدم الاهتمام بمتطلبات المواد التي يدرسها، وعدم الحرص على معرفة ذلك.

- الحرص على التسجيل في «شعب» متساهلة، ومتطلباتها بسيطة، نسبياً.

- الرجاء الدائم من الأساتذة تخفيف المقرر، وحذف بعضه. فلو قرر الأستاذ (مثلاً) 80 صفحة لامتحان معين، يجد من يطلب منه تخفيض عدد الصفحات إلى 40- 50 مثلاً. فالقراءة، والاستيعاب، لدى هؤلاء عبارة عن «سم قاتل».

- في حالة وجود «بحث» كمتطلب، ترى عجب العجاب. فالتنبل إما أن يطلب من غيره كتابته له، أو يقوم هو بكتابته بأسلوب نسخ/ ‏لصق. ولا يزيد حرفاً على ذلك.

****

- وتبلغ «الوقاحة» أحياناً، لدى بعض التنابلة، أن يطلبوا من أساتذتهم عمل الامتحانات بأسلوب يقترحونه، غالباً ما يكون طريقة «صح/ ‏خطأ». فهذا يسهل لهم -على حد اعتقادهم- النجاح... كما يسهل لهم «الغش»، أثناء الامتحان..!

- وأكثر ما يكرهون هي الأسئلة «المقالية»، وهي الأسئلة التي تبدأ بكلمة: عرف، وضح، اشرح، كيف... إلخ! كأن يكون السؤال: عرف كذا، معدداً عناصرها الأهم، شارحاً رأيك في كذا..! هنا «يحوس» التنبل، ويسقط في يده، وتظهر نقاط ضعفه، ويكتب ما يعن له، مما ليس له صلة بالجواب الصحيح.

- وفي الامتحانات الأهم، نشهد معظم «عجائب» التنبلة... بدءاً من كتابة اسم الطالب. فالبعض لا يكتب اسمه، أو يكتبه في غير المكان المخصص له... ثم يواصل الجلوس طيلة وقت الامتحان، ليقدم إجابته في نهايته. وبتصفح هذه الإجابة، ترى خيبة الأمل، وتلمس الإحباط... بسبب أن التنبل لم يكتب سوى أسطر بها كلمات، تعد على الأصابع، لامتحان كان يتطلب كتابة ما لا يقل عن 3 صفحات صحيحة..! أما ما كتبه التنبل فهو عبارة عن: إنشاء... وكلمات تشبه الطلاسم.

- والعجيب أن التنبل «يجادل» بشأن «الدرجات»، كما لا يجادل غيره؛ إذ يرى، بعد كل ما يظهره من استهتار، أنه يستحق النجاح، وبتقدير عالٍ.

إنها ظاهرة بالغة السوء. نرجو من وزارة التعليم مكافحتها، لأقصى حدٍّ ممكن، بعد دراسة أسبابها، ووضع الحلول المناسبة لهذه المسببات.