-A +A
محمد الساعد
على خط موازٍ من الحرب الروسية الأوكرانية، هناك هدف آخر لواشنطن غير هزيمة بوتين، لقد أشعلت أمريكا مع البريطانيين هذه الحرب الضروس، ودفع الغرب «الروسَ» دفعاً لخوض غمارها، ليس حبا في «زيلنسكي»، ولكن كراهية في «بوتين» الرجل الصلب الذي رفض الخضوع للمشيئة الغربية، وأعاد بناء بلاده عسكريا وهيمن على إمدادات الطاقة لأوروبا – القارة العجوز.

لقد كانت معركة مؤجلة منذ عشرين عاما، كان الغرب حريصا على إغراق القطب الروسي فيها مرغما لا مخيرا من أجل الهدف الأبعد وهو إشعال النار في الثياب الصينية في نهاية المطاف.


لقد ارتكب الغرب خلال السنوات الماضية كل المحرمات التي لا يمكن لرئيس بلدية صغيرة في منغوليا قبولها، فما بالنا بسيد الكرملين، وأصبحت روسيا تحت التهديد الإستراتيجي، وابتزاز الكرامة، إما القتال أو التحول لعبيد يصدّرون الغاز والبترول للغرب بأسعار زهيدة، وسوق للبضائع الأمريكية، ويرفعون أعلام الشواذ فوق الكرملين، كان خيارا بين الخضوع لأجندة اليسار المتطرف أو الموت في ساحات المعارك، ويبدو أن بوتين وطاقم إدارته حسموا خياراتهم، وأن من واجبهم الحفاظ على بلادهم ومصالحها من الانهيار أمام الأدوات والخطط الغربية المدمرة.

لقد حُشر بوتين في الزاوية حتى لم يعد أمامه إلا القيام بحرب ضد رأس الجسر الغربي المتقدم في أوكرانيا الهادف لاقتحام آخر المعاقل الرافضة لهيمنة الغرب في شرق أوروبا، أوكرانيا في هذا المشروع كانت قفازا من حديد يخدش الكبرياء الروسي كل يوم، فخلال عقدين أو أكثر بقيت أوكرانيا حديقة خلفية للأوروبيين والأمريكان، يتم فيها نشر الغسيل الغربي القذر، من معاملات بنكية مشبوهة وغسيل أموال ودعارة منظمة وصفقات سلاح غير شرعية، وانتهاء بإنشاء مليشيات متطرفة وتدريبها وعسكرتها لاستخدامها ضد الروس.

المدافع تدك أوكرانيا والطائرات تجوب أجواء كييف، لكن أحدا لم يلتفت إلى أن حرب الغرب الحقيقية ليست في شوارع موسكو وميادين سانت بطرسبيرغ بل ستجري لاحقا في بكين، وأن تجريد موسكو من قدراتها العسكرية وتجريفها اقتصاديا وإخضاعها للمفاوضات القاسية، سيؤدي في نهاية الأمر إلى تحييدها والانفراد بالصين، عندها ستخضع بكين وتتنازل عن كل البنود المختلف عليها وعن كل طموحاتها لإنشاء إمبراطوريتها الصناعية الخاصة، لأنها ستكون حينها بدون حليف كان من المحتمل أن ينخرط معها في مقاومة التنمر الغربي.

الموقف الصيني الحالي من موسكو غير المساند، سقط في فخ الترويع الذي استخدمته العواصم الغربية ضد الجميع إما أن تكون معي أو أنت ضدي، فالعالم كله ارتبك ولم يكن يتصور أن يجبر على اتخاذ موقف من حرب غامضة في تفاصيلها وأهدافها، بكين هذه المرة غرقت في بحر التردد العظيم أمام الدهاء السياسي وخبرات قرون من الاستعمار الغربي يساندها قوة اقتصادية هائلة، وآلة إعلامية خبيرة وشرسة استطاعت خلال أيام فقط اغتيال شخصية بوتين وبلاده وتاريخهم.

كيف ستجري العلاقة بين بكين وواشنطن إثر انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية تلك قصة أخرى، لكنها ستدفع بكين بلا شك لأن تكون أكثر برغماتية في التعامل مع الغرب والقبول بزعامة أمريكا للعالم والعودة للصف الثاني وربما الثالث، والخضوع لإرادة العرق الانجلوسكسوني الذي يمثله تحالف «أمريكا وبريطانيا وأستراليا»، وربما نشهد تقديم تنازلات اقتصادية وسياسية صارمة تمنعها من التقدم مرة أخرى على السيد الأبيض.