في صحـراء نازكا جنوب البيرو توجد أشكال منحوتة على أرضها تعرف باسم «خطوط نازكا»، وتمثل أشكال حيوانات وحشرات يمتد بعضها لمسافة 200 متر، لكن ومنذ اندثار حضارة النازكا عاش أهل الأرض فوقها لمئات السنين دون أن يعوا بوجود تلك الأشكال؛ لأنهم كانوا يرون فقط خطوطاً ممتدة ولم يكونوا يدركون أنها تمثل أشكالا كاملة حتى حلقت فوقها أول طائرة غربية وعندها اتضحت الصورة الأكبر التي تشكلها تلك الخطوط الممتدة. وهذا المنظور المحدود القاصر المنقوص الذي لا يرى التفاصيل ضمن منظور الصورة الأكبر هو سبب أن البشر لا يتعلمون من دروس التاريخ؛ لأنهم لا يرون أحداثه ضمن الصورة الأكبر والأعمق التي كانت ستمنحهم العبر والدروس ويستغرقون بالمماحكة حول التفاصيل فقط، وهذا ما نراه مجدداً يحدث بالتحليلات التي يزدحم بها الفضاء الإعلامي والصحفي والرسمي بالنسبة للحرب الروسية الأوكرانية، فكلها منصبة على التفاصيل ولا يوجد تحليل أعمق يراها ضمن الصورة الأكبر التي صنعت الحدث، وهي بهذا تكرر أخطاء كل الحروب المدمرة التي قتلت الملايين من الشعوب الفقيرة ضمن ما يسمى بالحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي والتي لم تكن باردة إلا في البلدين المتنافسين على فرض الهيمنة العالمية عبر العنف والدمار الحربي، بينما خارجهما كانت حربا عالمية ثالثة مشتعلة ما زالت بقاياها تدمر وتقتل أعدادا لا تحصى من البشر بآثار السموم التي صبت فوق تلك البلاد بقصفها بالأسلحة الكيميائية مثل «العنصر البرتقالي» في فيتنام والمواد المشعة واليورانيوم المنضب والتي أدت لوباء مستمر بأمراض السرطان وتشوهات الأجنة والإعاقات الحادة، بالإضافة للألغام الأرضية، لكن الناس ما زالوا مستغرقين في تحليل التفاصيل ولا أحد يتحدث عن سبب قيام هذه الحروب وعن سبب وصول العالم لحافة الحرب العالمية الثالثة والإبادة النووية الشاملة مرارا وتكرارا ابتداء من أكتوبر 1962م، حيث أدى نشر أمريكا لمنظومتها الصاروخية في تركيا وإيطاليا إلى رد السوفييت بنشر منظومتهم الصاروخية في كوبا الجارة الشيوعية لأمريكا، وتجهز الطرفين لحرب نووية وتم تدريب أطفال المدارس الأمريكيين على ما يجب فعله عند وقوع انفجار نووي، لكن لحسن حظ العالم كان هناك ضمن دوائر السلطة من لديهم الرشد الكافي لمنع الإبادة النووية، وتكررت مواجهة هددت بحرب نووية بين الهند وباكستان مايو 2002 بسبب صراعهما على إقليم كشمير وحشد البلدين مليون جندي على الحدود استعدادا لحرب نووية، والآن ذات الوضع يتكرر مع التهديد النووي الروسي لدول الناتو وأمريكا على خلفية معارضتهم لغزو روسيا لأوكرانيا، لكن لا أحد يحلل السبب الجذري لتكرار هذا النمط في المواجهة الخطيرة بين القوى المتنافسة على الهيمنة، والسبب الجذري هو أن هناك دولا وأقاليم تمثل نقاط تماس واحتكاك بين مناطق نفوذ وسيطرة القوى الكبرى المتنافسة، وعندما تنحاز «دول التماس» تلك لإحدى القوى الكبرى فهي تلقائيا تستجلب على نفسها عداوة القوة المنافسة المضادة، وهذا ما حصل لأوكرانيا مع انحيازها للتحالف مع القطب العسكري للناتو وأمريكا، وبالمثل تايوان التي تواجه تهديدا عسكريا مشابها من قبل الصين بسبب انحيازها للقطب الغربي، وبدأت أمريكا بتسليحها بكثافة منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، وهذا ليس قدرا محتوما على العالم أن يتدمر ويقتل ملايين من شعوبه في كل جيل لأجل لعبة شطرنج بين القوى الكبرى بيادقها مصنوعة من دماء ودموع وعظام الأبرياء، فهناك سياسة واحدة لو التزمتها جميع «دول التماس» لانتهت للأبد أي إمكانية لقيام حرب عالمية ثالثة، وتتمثل في ما يسمى بـ«سياسة عدم الانحياز»، أي أن تعلن تلك الدول أنها غير منحازة لأي من القوى الكبرى المتنافسة على الهيمنة العالمية، وترفض أن تصبح قاعدة تمركز عسكري لها، وبهذا لا تستفز القوى المنافسة لإرادة تحييدها عسكريا بالقوة عبر الغزو والاحتلال كما هو حاصل حالياً من روسيا تجاه أوكرانيا، إنما تصبح بمثابة منطقة عازلة تمنع انطلاق شرارة للحرب بين القوى الكبرى، وهي سياسة سبق أن كانت سبب نجاة عديد من الشعوب من جحيم الحرب الباردة، حيث تأسست «حركة عدم الانحياز» عام 1955 من 120 دولة نامية، لذا إن أرادت الأمم المتحدة ضمان عدم وقوع حرب عالمية باردة أو ساخنة أو نووية فيجب أن تتبنى إلزام مناطق ودول التماس في صراعات التنافس على فرض الهيمنة العالمية بين القوى الكبرى بتبني سياسة الحياد وعدم الانحياز، فانحيازها بالعموم لا مصلحة موضوعية فيه لأحد، إنما هو غالبا مدفوع بميول شخصية للزعماء لا أكثر.