-A +A
محمد مفتي
منذ اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية منذ عدة أسابيع مضت، لم يتوقف الرئيس الأوكراني زيلينسكي عن الهجوم الحاد على بعض الدول الغربية -ودول حلف الناتو على وجه الخصوص- متهماً إياها بأنها خذلته في مواجهة روسيا، ومؤخراً قبل أيام قليلة كان الرئيس زيلينسكي يستجدي الولايات المتحدة ودول أوروبا لحماية المجال الجوي الأوكراني من الضربات الروسية التي استهدفت البنى التحتية والقواعد الجوية الأوكرانية، بل والمدن الآهلة بالسكان التي تدمرت كلياً جراء القصف الروسي.

نحن بحاجة إلى التوقف عند تصريحات الرئيس الأوكراني وتحليلها بشكل دقيق لاستنتاج ما يقف خلفها، وبصفة شخصية أشك في أن أوكرانيا قد تعنتت عمداً في مواقفها قبل الحرب تجاه روسيا دون أن تكون قد تلقت الضوء الأخضر من الدول الغربية، والذي كان سيمكِّنها من مواجهة الحشود الروسية على حدودها حال اجتياحها، كانت طبول الحرب الروسية تقرع مدوية بشكل لا يقبل اللبس ولا حتى مجرد التشكيك، ورغم ذلك بدا الموقف الأوكراني قبل الحرب متسماً باللامبالاة، رغم معرفة المسؤولين التامة بأن قدراتهم الدفاعية والهجومية محدودة مقارنة بآلة الحرب الروسية.


يبدو من تصريحات الرئيس الأوكراني أنه تلقى الوعود بوقوف دول الناتو بجانبه فيما لو تلقت أوكرانيا أي ضربات روسية، وهذا ليس اجتهاداً من الكاتب لاستنتاج ذلك، فتصريحات زيلينسكي توضح أن الدول الغربية خذلته، وتركته هو وشعبه يواجهان شبح الموت والدمار مقابل حفنة من المساعدات الإنسانية التي تفضلت بها بعض الدول المحيطة به، ومهما كانت قيمة تلك المساعدات فهي من المؤكد ليست بحجم الأضرار الكارثية التي سببتها الضربات الروسية للبنى التحتية والآلة العسكرية الأوكرانية.

غير أنه من الواضح أن رد الفعل الغربي العنيف ضد روسيا لا يستهدف وضع حد للحرب الدائرة في أوكرانيا، لكنه وبالرغم من ذلك تضمن عقوبات اقتصادية مدمرة للاقتصاد الروسي، وذلك إلى الحد الذي دفع المسؤولين الروس للتصريح بأن تلك العقوبات هي بمثابة إعلان الحرب ضد بلادهم، ويبدو أن تلك العقوبات هي الهدف الحقيقي لإذكاء نار الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فخلال العقود الأخيرة بدا وكأن روسيا متفوقة بشكل كبير -حتى على الولايات المتحدة- في بعض مجالات الصناعات العسكرية، ومن المؤكد أن العقوبات الاقتصادية المدمرة هي ما تتمناه الدول الغربية لتحجيم دور روسيا.

لتدمير دولة لستَ بحاجة إلا لبعض الغباء السياسي وحفنة من القرارات الانفعالية، والمتتبع لتصريحات المسؤولين السياسيين للكثير من الدول الغربية قبل اندلاع الحرب الروسية ضد أوكرانيا يكتشف أنها كانت تدفع في اتجاه تصعيد الحرب وليس إطفاءها، ولعله من المهم أن ننتبه إلى أن تفكك الاتحاد السوفيتي لا يعني بالضرورة التخلص من الهيمنة الروسية على العالم، فروسيا تشكل قرابة 80% من مساحة الاتحاد السوفييتي السابق، ومساحتها تبلغ ما يقارب ضعف مساحة الولايات المتحدة الأمريكية، وخلال العقود الأخيرة تمكنت روسيا من فرض نفسها كقوة إقليمية في تلك البقعة من العالم، مما أعاد شبح هيمنة الاتحاد السوفييتي السابق إلى الأذهان.

كما أن روسيا تمكنت من فرض نفسها على العديد من مناطق الصراع في العالم، وتمكنت من عقد تحالفات عسكرية قد تمكنها لاحقاً من سحب البساط من تحت أقدام رؤساء الولايات المتحدة أنفسهم، وفي نفس الوقت تعلم الولايات المتحدة والدول الأوروبية مخاطر المواجهة النووية مع زعيم مثل بوتين لديه القدرة على الصمود والتحدي، كما أن مساحة روسيا التي تمتد من أوروبا إلى حدودها مع بعض الولايات الأمريكية مثل «ألاسكا» ستجعل الكفة تميل لصالحها في حال اندلاع حرب نووية مستقبلية.

بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي، توجس العالم خيفة من حجم الآلة العسكرية العراقية التي تراكمت لدى العراق خلال ثمانية أعوام من الصراع مع إيران، وكان من بينها بعض أسلحة الدمار الشامل، ومن المؤكد أن بعض الدول الغربية لم تتمكن من استخدام الدبلوماسية الدولية للتخلص من العتاد العسكري العراقي، لكنها وجدت بغيتها في زعيم متهور مثل الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، كما أن ضعف خبرة صدام حسين السياسية وعدم قدرة مستشاريه على قراءة الأحداث وفهم السياق الدولي بشكل جيد دفعته لاحتلال الكويت، اعتقاداً منه أن الدول الغربية لن تتورط في حرب في هذه المنطقة الحساسة من العالم.

انتهت الحرب -كما يعلم الجميع- بتدمير الآلة العسكرية العراقية بل وتدمير البنى التحتية العراقية ذاتها، كما أن العقوبات الاقتصادية استمرت حتى بعد انتهاء حرب الخليج الثانية، وهو ما تسبب في إنهاك الجيش العراقي على مدار أعوام عديدة، إلى الحد الذي مكن الولايات المتحدة من احتلال العراق في العام 2003 خلال ثلاثة أسابيع فقط.

في المستقبل القريب قد يتمكن المجتمع الدولي من تهدئة الوضع بين روسيا وأوكرانيا، ولكن هل سيتم رفع العقوبات بشكل كامل عن روسيا؟ ومتى ستتمكن أوكرانيا من استعادة بنيتها التحتية ويعود ملايين اللاجئين الذين فروا منها على وقع طبول الحرب بعد كل الدمار الذي حل ببلادهم، قد يحمل المستقبل القريب الكثير من الغموض والتوقعات غير السارة، والتي ربما أمكن تجنبها بالكامل لو سعى القادة السياسيون في روسيا وأوكرانيا للحنكة الدبلوماسية، ليتمكنوا من تجنيب شعوبهم وبلادهم الدمار والتشتت والحصار الاقتصادي.