صليت العشاء في أحد المساجد، كنت ألحظ أحدهم يتابعني بالنظر تأكد ظني بعد أن التفت إليه بغتة فغض طرفه عني، وعندما أدرت وجهي عاد ينظر إلي، فأهملته حتى أقيمت المكتوبة ثم خرجت فلحقني وأوقفني لأسمع منه، فهو يخاف علي من النار وفحيح جهنم، وعملي المحبط وصلاتي التي لن تقبل، ناولني ورقة تحوي أحاديث ومواعظ تتعلق بِإسبال الثوب الذي يدخل صاحبه النار، وأني من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم.
لم أرغب في نقاشه لقناعتي أنه من الصنف الذي يصعب إقناعه، وعجبت أنه لم يزل بيننا من ينشغل بالفروع ويهمل الأصول ويهتم بمسائل الخلاف، ولا ينظر إلى سعة الإسلام وحقيقة الوسطية التي نعيشها اليوم في سعادة.
أحزنني منظره وهو يتلفت بخوف ويتحدث بصمت تاركاً شماغه مسدلاً على حدود وجهه، قلت له لو رآك سيدنا عمر لعلاك بالدرة قائلًا: لا تُمت علينا ديننا أماتك الله. هذه ليست مسألة خلافية، اتفقت المذاهب على عدم تحريم الإسبال، ولا يعتبر تقصير الثوب من سمات الصالحين وليس له علاقة بالتدين.
فلا يخفى على لبيب، له رجاحة من عقل، ومسكة وشميم من معرفة وإدراك، أن الحكمة من وراء التشريعات؛ أمراً أو نهياً، هي الغاية التي عليها مناط التعويل؛ ولا بد أن تؤخذ وفق تقديرها الذي سنّت فيه وشرّعت، والنظر إلى الظروف المحيطة بها، والتي حتمت سنّها وإصدارها، إن الأمر النّبوي بتقصير الثوب، يفهم منه أنه متصل بظاهرة اجتماعية كانت سائدة آنذاك، وهي التباهي والافتخار وإظهار التعالي من خلال مظهر جر الثوب خيلاء وبطراً، مما استلزم هذا الأمر النبوي بتقصير الثياب، لجماً لتلك الأنفس من الخيلاء والكبر، ولهذا كان الاستثناء لسيدنا أبي بكر بقوله «لست منهم»، فيفهم من هذا الحديث ليس تقصير الثوب إطلاقاً في كل زمان ومكان، ولكن متى ما كانت إطالة الثوب مظهراً من مظاهر التكبر والخيلاء والكبر والعجب، وجب التقصير؛ بل يمكننا أن نتراحب وفق هذا الفهم إلى القول بأنه إذا تغيرت المعادلة وصار تقصير الثوب مظهراً من مظاهر التعالي على الناس، وإظهار التفوق الديني عليهم بمزية الالتزام والتمييز، فالواجب، صوناً للنفس من التعالي على الآخرين، أن تلزم التسوية من الناس في مظهرهم ولا يتعالى عليهم بمظهر يظن فيه أنه يحيي سنة على الظاهر، ولكنها بالمقابل تطفئ الحكمة من وراء الأمر بالتقصير التي لزمت من قصّر في آخره، كما لزمت من أطال في العهد السالف.. والحال نفسه فيما يتصل بإعفاء اللحية وحفّ الشارب، فإنما كان ذلك لتحقيق الغاية من مخالفة اليهود، فإذا كان هذا دأب اليهود اليوم فيما نرى من إعفاء اللحية وحفّ الشوارب، فالأولى المخالفة، استناداً لمشروعية الأمر في بادئه..
ورد في (فتح الباري) ثلاثة أحاديث، تدل على أن النهي عن الإسبال مقيَّد بالأحاديث الأخرى المصرِّحة بمن فِعله خيلاء، قال النووي «ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاءً يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء وأن البطر والخيلاء والتبختر مذموم ولو لمن شمَّر ثوبه، ولكن بمجموع الأدلة أن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه غير محتقر لمن ليس له مثله لا يضرُّه ما لبس من المباحات ولو كان في غاية النفاسة.
يقول نبي الأمة: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مِثقال ذرَّة من كِبْر»، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْر بطر الحق وغمط الناس». فكل من أحب أن يتعاظم على صاحبه فهذا من الكِبْر الذي نهى عنه رسول الله. فلا يحرِّم الجر والإسبال إذا سلم من الكبرياء والخيلاء. فالأحاديث الواردة في الزجر عن الإسبال مطلقة. فوجب تقيُّدها بالإسبال للخيلاء.
ويستفاد من حديث رسول الله لأبي بكر: «إنك لست ممن يصنعه خيلاء» فهو مستثنى من الوعيد، وفيه أنه لا حرج على من انجرَّ إزاره بغير قصده مطلقاً. فالنهي والوعيد ينصبُّ على كل من جرَّ إزاره بطراً يتباهى به على الآخرين وهذا ينطبق على كل من لبس الغالي والثمين وترصَّع بالألماس والأحجار الكريمة يستعرض أمام الآخرين غرضه الكِبْر والخيلاء، ولا يعني أن من لَبِس حسناً يريد إظهار نعمة الله أو أَطال ثوبه يحسِّن من منظره وهندامه ليس قاصداً إغاظة الآخرين أو التكبُّر عليهم أنه ليس من المتدينين أو الصالحين. فالأزياء واللبس الأصل فيهما الإباحة للجميع.
يكفي ثلاثون عاماً ضيعتها علينا الصحوة وأشغلتنا في أمور خلافية لا طائل منها.
إن من أوجب الواجبات أن نعي جميعاً أن هذا الدين الخاتم إنما أرسل للبشرية جمعاء، بمختلف قومياتها، وإثنياتها، وثقافتها وحضاراتها، وهذه العولمية في الإرسال تقتضي وعياً مماثلاً، واتساعاً في الأفق وتقديراً للأولويات، وبحثاً عن المشتركات التي تتيح الفرصة لهذا الدين أن يعبر بجوهره النقي العظيم، ولا يقف عند ظواهر قدرت في زمنها بتقديرها، ويجب على الجميع أن يعوا الحكمة من وراء الأوامر، والغاية منها، كفوا عن تنطعكم، وقلة فهمكم والتدخل في خصوصيات الآخرين، أفيقوا فقد انصرمت أيامكم.
لم أرغب في نقاشه لقناعتي أنه من الصنف الذي يصعب إقناعه، وعجبت أنه لم يزل بيننا من ينشغل بالفروع ويهمل الأصول ويهتم بمسائل الخلاف، ولا ينظر إلى سعة الإسلام وحقيقة الوسطية التي نعيشها اليوم في سعادة.
أحزنني منظره وهو يتلفت بخوف ويتحدث بصمت تاركاً شماغه مسدلاً على حدود وجهه، قلت له لو رآك سيدنا عمر لعلاك بالدرة قائلًا: لا تُمت علينا ديننا أماتك الله. هذه ليست مسألة خلافية، اتفقت المذاهب على عدم تحريم الإسبال، ولا يعتبر تقصير الثوب من سمات الصالحين وليس له علاقة بالتدين.
فلا يخفى على لبيب، له رجاحة من عقل، ومسكة وشميم من معرفة وإدراك، أن الحكمة من وراء التشريعات؛ أمراً أو نهياً، هي الغاية التي عليها مناط التعويل؛ ولا بد أن تؤخذ وفق تقديرها الذي سنّت فيه وشرّعت، والنظر إلى الظروف المحيطة بها، والتي حتمت سنّها وإصدارها، إن الأمر النّبوي بتقصير الثوب، يفهم منه أنه متصل بظاهرة اجتماعية كانت سائدة آنذاك، وهي التباهي والافتخار وإظهار التعالي من خلال مظهر جر الثوب خيلاء وبطراً، مما استلزم هذا الأمر النبوي بتقصير الثياب، لجماً لتلك الأنفس من الخيلاء والكبر، ولهذا كان الاستثناء لسيدنا أبي بكر بقوله «لست منهم»، فيفهم من هذا الحديث ليس تقصير الثوب إطلاقاً في كل زمان ومكان، ولكن متى ما كانت إطالة الثوب مظهراً من مظاهر التكبر والخيلاء والكبر والعجب، وجب التقصير؛ بل يمكننا أن نتراحب وفق هذا الفهم إلى القول بأنه إذا تغيرت المعادلة وصار تقصير الثوب مظهراً من مظاهر التعالي على الناس، وإظهار التفوق الديني عليهم بمزية الالتزام والتمييز، فالواجب، صوناً للنفس من التعالي على الآخرين، أن تلزم التسوية من الناس في مظهرهم ولا يتعالى عليهم بمظهر يظن فيه أنه يحيي سنة على الظاهر، ولكنها بالمقابل تطفئ الحكمة من وراء الأمر بالتقصير التي لزمت من قصّر في آخره، كما لزمت من أطال في العهد السالف.. والحال نفسه فيما يتصل بإعفاء اللحية وحفّ الشارب، فإنما كان ذلك لتحقيق الغاية من مخالفة اليهود، فإذا كان هذا دأب اليهود اليوم فيما نرى من إعفاء اللحية وحفّ الشوارب، فالأولى المخالفة، استناداً لمشروعية الأمر في بادئه..
ورد في (فتح الباري) ثلاثة أحاديث، تدل على أن النهي عن الإسبال مقيَّد بالأحاديث الأخرى المصرِّحة بمن فِعله خيلاء، قال النووي «ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاءً يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء وأن البطر والخيلاء والتبختر مذموم ولو لمن شمَّر ثوبه، ولكن بمجموع الأدلة أن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه غير محتقر لمن ليس له مثله لا يضرُّه ما لبس من المباحات ولو كان في غاية النفاسة.
يقول نبي الأمة: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مِثقال ذرَّة من كِبْر»، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْر بطر الحق وغمط الناس». فكل من أحب أن يتعاظم على صاحبه فهذا من الكِبْر الذي نهى عنه رسول الله. فلا يحرِّم الجر والإسبال إذا سلم من الكبرياء والخيلاء. فالأحاديث الواردة في الزجر عن الإسبال مطلقة. فوجب تقيُّدها بالإسبال للخيلاء.
ويستفاد من حديث رسول الله لأبي بكر: «إنك لست ممن يصنعه خيلاء» فهو مستثنى من الوعيد، وفيه أنه لا حرج على من انجرَّ إزاره بغير قصده مطلقاً. فالنهي والوعيد ينصبُّ على كل من جرَّ إزاره بطراً يتباهى به على الآخرين وهذا ينطبق على كل من لبس الغالي والثمين وترصَّع بالألماس والأحجار الكريمة يستعرض أمام الآخرين غرضه الكِبْر والخيلاء، ولا يعني أن من لَبِس حسناً يريد إظهار نعمة الله أو أَطال ثوبه يحسِّن من منظره وهندامه ليس قاصداً إغاظة الآخرين أو التكبُّر عليهم أنه ليس من المتدينين أو الصالحين. فالأزياء واللبس الأصل فيهما الإباحة للجميع.
يكفي ثلاثون عاماً ضيعتها علينا الصحوة وأشغلتنا في أمور خلافية لا طائل منها.
إن من أوجب الواجبات أن نعي جميعاً أن هذا الدين الخاتم إنما أرسل للبشرية جمعاء، بمختلف قومياتها، وإثنياتها، وثقافتها وحضاراتها، وهذه العولمية في الإرسال تقتضي وعياً مماثلاً، واتساعاً في الأفق وتقديراً للأولويات، وبحثاً عن المشتركات التي تتيح الفرصة لهذا الدين أن يعبر بجوهره النقي العظيم، ولا يقف عند ظواهر قدرت في زمنها بتقديرها، ويجب على الجميع أن يعوا الحكمة من وراء الأوامر، والغاية منها، كفوا عن تنطعكم، وقلة فهمكم والتدخل في خصوصيات الآخرين، أفيقوا فقد انصرمت أيامكم.