لعل أسوأ خيار يمكن أن تتخذه السياسة الخارجية في أي دولة في العالم منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الآن هو أن تكون خصماً للولايات المتحدة الأمريكية. لكن الخيار الآخر وهو أن تكون صديقاً أو حليفاً أو شريكاً لا يبدو خياراً خالياً من العيوب والنقائص، بل في بعض الأحيان يحمل تحديات أكبر وربما أخطر. ولعل قائلاً يقول فلتكن علاقة أي دولة مع واشنطن علاقة الند للند وعلاقة المصالح المشتركة. ولكن عندما تكون المصالح متشابكة ومتشعبة تصبح الشراكة هي جزءاً من علاقة المصالح المشتركة، أياً كان التوصيف وأياً كانت التسمية. عندما جاءت الإدارة الحالية إدارة الرئيس جوزيف بايدن كان من الواضح أنها محمّلة بتصورات أيديولوجية فرضها واقع التناقض مع الإدارة السابقة، إدارة دونالد ترمب، وتريد أن تكون امتداداً لإدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما. إدارة أوباما بدأت مرحلة من الفتور مع الدول العربية وراهنت على الاتفاق النووي مع النظام الإيراني، حتى لو كان ذلك على حساب مصالح أصدقاء واشنطن وحلفائها في المنطقة. فكان أن أطلق الاتفاق سيئ الذكر يد إيران تعبث بأمن المنطقة واستقرارها وراحت طهران تنشر الخراب والدمار في أرجاء المنطقة. في مقابل ذلك أهملت واشنطن المنطقة وراحت تتحدث عن اهتمامها بجنوب شرق آسيا، فكان أن تعفن الوضع في سوريا وأصبح مسرحاً للمليشيات الإيرانية، ونظرت إلى الوضع هناك من زاوية ضيقة جداً، وتكرر السيناريو نفسه في العراق فتحالفت واشنطن مع مليشيات إيران بحجة ضرب داعش، تاركة في العراق قنابل موقوتة ما تزال تعبث بأمن العراق واستقراره. وفي لبنان غضّت النظر عن تمدد حزب الله الإرهابي حتى أصبح يمثل رأس الحربة في المنظمات الإرهابية العابرة للحدود في منطقة الشرق الأوسط. أما الإدارة الجديدة فقد سارت في ركاب إدارة أوباما فكانت فترة رئاسية ثالثة لا أكثر. زادت الإدارة الجديدة على إدارة أوباما حديثاً عن أسطوانة حقوق الإنسان وبالمناسبة عقدت إدارة أوباما التفاهمات مع إدارة الرئيس الروسي بوتين خصوصاً في الملف السوري ولم تظهر ملفات حقوق الإنسان إلا عندما اختلفت المصالح، كما هي العادة الأمريكية التي تستخدم هذه الملفات كحصان طروادة فتبدأ في إلقاء محاضرات عفا عليها الزمن. في التبرير الأمريكي لكل هذه الخيارات السياسية السابقة واللاحقة حديث عن المصالح الأمريكية وفي ذلك مغالطة كبرى، صحيح، من حق واشنطن البحث عن مصالحها، ولكن هناك عدة خيارات لتحقيق المصالح، يمكن ببساطة اختيار الطريقة المثلى التي لا تلحق الضرر بمصالح الشركاء. وحتى إذا أخذنا بمنطق المصالح الأمريكي فمن حق الآخرين أيضاً البحث عن مصالحهم، الرسالة الأمريكية وصلت، فراحت دول المنطقة تبحث أيضاً عن مصالحها، ولعل الامتحان الأكبر هو الحرب الأوكرانية وسياسة الطاقة، وها هي الدول العربية تثبت أن مصالحها تقع في رأس سلم أولوياتها، فإذا أعجب ذلك واشنطن فنعم وبها، أما إذا وجدت في هذه الخيارات العربية ما لا يناسبها، فهذه بضاعتها ردت إليها، أليست هي من وضعت قواعد المصلحة. على واشنطن إخراج الفيل من الغرفة بوضع أسس حقيقية تعيد الشراكات التقليدية مع الدول العربية إلى سكتها إذا أرادت تفاهماً أفضل ونتائج مثمرة.