-A +A
نجيب عصام يماني
خير من عبّر شعراً عن (عطش مدينة) الشاعر أحمد الغزاوي في قصيدة بمناسبة وصول مياه عين العزيزية إلى جدة في العام 1367هـ يقول فيها:

مدينة شاب فيها الدهر واكتهلت


بها القرون وعانت أي ضراء

يسقط الطير عن أجوائها عنتاً

بما يلاقيه من قيظ وأصلاء

وفي قوادمه الأشجان مترعة

وفي خوافيه نجوى ذات ضوضاء

إن هي استشرقت للماء تنشده

جفت كراها وجفت كل خضراء

لأهالي جدة قصة تروى مع العطش عانوا كثيراً في توفير المياه التي تجعل من كل شيء حياً. كانت هناك عين ماء واحدة شديدة الملوحة تدعى عين الوزيرية، فكانت الكنداسة المنزوعة من إحدى السفن الغارقة على ساحلها كفيلة بتحلية هذا الماء ليصبح سائغاً لإرواء المدينة العطشانة، وعندما تعطلت هذه الآلة في العام ١٣٤٦هـ أمر المؤسس -طيب الله ثراه- بإصلاحها وشراء أخرى جديدة، علاوة على قيام السكان بتخزين مياه الأمطار بتجميعها من أسطح المنازل عبر مخارج أنبوبية تتدفق منها المياه إلى الخزانات الأرضية، هذه التقنية قائمة يمكن مشاهدتها في بيت نصيف في جدة التاريخية.

عدت بالذاكرة، وأنا في طريقي إلى وقف الملك عبدالعزيز للعين العزيزية بدعوة كريمة من المستشار نزيه موسى عضو مجلس النظارة، وكيف أن هاجس العطش كان دائماً يخيّم بظلاله الكثيفة على جدة، وكيف تدخّل المؤسس -رحمه الله- في الوقت المناسب، ليرد عن جدة وأهلها هاجس الموت عطشاً فيوجّه وزير ماليته الشيخ عبدالله السليمان، بإنفاذ عقد الاتفاق لجلب الماء من وادي فاطمة إلى مدينة جدة على نفقته الخاصة، مشدداً عليه بأن لا يبخل على ملاك العيون والآبار بالمال، في صنيع لا تفي الكلمات حقه وقد أمنت جدة من غوائل العطش، وارتاحت من ضنك البحث عن الماء الزلال وقفت متأمّلاً هذا الصرح.

وقد تداعت إلى خاطري صور التاريخ وهي تجسّد عظمة قائد فذٍّ، وروح أبٍ حانٍ، ورؤية ملك جمع أسباب المجد كلها.. بدءاً بملحمة التوحيد، وصولاً إلى إرساء مملكة راسخة الأركان، سامقة البنيان، متشارفة للمعالي على مر الحقب والأزمان.

شرح الأمين العام للوقف لؤي طربزوني النشأة والتكوين على خرائط توضح أراضي الوقف الواسعة والممتدة في جنوب وشرق مدينة جدة، وأن الوقف بصدد تحديد صكوك ملكيتها وإلكترونيتها.

في جولة على معرض الوقف استمعت إلى شرح مفصل بالصور والأرقام عن مسار الخط الذي أمر به الملك المؤسس لينقذ مدينة جدة من عطشها وجفاف أيامها كعمل خيري يبقى أجره إلى قيام الساعة.

ولمعرفتي السابقة بمدى الجهد الذي يصاحب مد خطوط الأنابيب وحفر الخنادق أدركت حجم هذا العمل والجهد الذي بذل فيه بإمكانات تلك الأيام والتي باركتها أحلام المؤسس وطموحاته في رخاء مملكته الموحدة.

لو طويت حجب الزمان، قبل قرن من الزمن، لألفيت الجميع وقد شرعوا في إنزال الأمر إلى أرض الواقع، في تجسيد رائع لمعاني الإنجاز الفوري لمشروعات التنمية في بلادنا، فنفذت شركة جلاقلي هنكلي وشركاؤهم وشركة مصر لأعمال الأسمنت وغيرها أعمال الحفر ومد الأنابيب بتكلفة ستة ملايين ريال، وعندما توسعت مدينة جدة وازداد الطلب على المياه أمر -رحمه الله- بإنشاء خط أنابيب أكبر ليستوعب خمسة أضعاف ماء العين الجارية لتتنعم جدة بالمياه العذبة بعد عطش كاد أن يقضي على المدينة وساكنيها.

قام وقف العزيزية بتسجيل الكثير من المباني والأراضي والعقار على أنها وقف عليه وأن ريعها لا ينفق إلا في مصالحها، فشرط الواقف كنص الشارع في لزومه ووجوب العمل به.

وبما أن الاختصاص الولائي يشمل شؤون النظارة على الوقف بما فيها استبدال أعيانه عند الضرورة والإذن بتعديل شروط الواقف أو بعضها والحكم بإبطال الشروط الخارجة عن حدود المقاصد العامة للشريعة، إذاً فقد أعطى الفقه سلطة إجراء التصرفات التي تعرض للوقف بما يدفع عنه الضرر ويحقق له المصلحة، فمن الواجب أن يدرس الناظر عليه ببعد نظره وسعة أفقه وسمو مداركه التوسع في استثمار عوائده، خاصة وأن هناك (شركة مياه) وطنية احتكرت خدمة المياه وفق أنظمتها فوجب على مجلس النظارة أن يضع خططاً مستقبلية استثمارية للوقف، خاصة أن الاستبدال في الوقف يعد من الوسائل القانونية التي تساعد على بقائه واستمراره وفعالية عوائدة بالمنفعة.

وقد أجازت بعض المذاهب الفقهية الاستبدال على إطلاقه دون مبرر أو مسوغ شرعي لفوائده والتي تأتي بأوفر الخيارات والثمرات مما يزيد في موارده.

أجاز أبو حنيفة الاستبدال معتمداً على تعذر المنفعة، بحيث تصبح منفعة العقار الموقوف منعدمة أو تقل المنفعة منه وهذا حال وقف العين العزيزية اليوم، فمن الممكن والحال كذلك بيع بعض أصوله ويشترى بثمنها ما هو أكثر نفعاً، وفي هذا رفع الضرر عن الوقف وزيادة في أرباحه ويتم الاستبدال تحت رقابة قضائية تعرف بحكم تخصصها أن مصلحة الوقف تتحقق في الاستبدال.

كما أجاز المذهب الحنبلي بجواز معاوضة الوقت بالبدل عنه في حالة تعطل منافعه، لأن في الاستبدال حفظاً للوقف من الضياع إذا قلت منافعه أو انعدمت، وقد أبيح هذا الإجراء للضرورة صيانة لمقصود الوقف من الضياع.

لذا فإن الضرورة الحاضرة أو المصلحة الظاهرة تستدعي التحرك من أجل تفعيل الوقف وزيادة المنفعة منه. وقد أجازت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أن الوقف المتعطل ينقل إلى جهة نظيرة ببيع أو غيره، حسب ما ينصه النظر الشرعي، هذه النصوص مع تفعيل لمقاصد الشرع أرى أن يقوم الوقف وهو وقف عظيم بعد أن تغيرت الأحوال بالتوسع في استثماراته وتعدد موارده والمشاركة بصورة أكبر في تنمية المجتمع والمشاركة فيها، فبدلاً من شراء 30 مليون عبوة مياه سنوياً لتوزيعها في المواسم أن يتم إنشاء مصنع مياه متطور على أراضيه وكافة الصناعات المصاحبة من تغليف وتعبئة وإعادة تدوير وتشغيل العمالة الوطنية وتدريبهم وإنشاء معهد خاص بهم. إضافة إلى مركز أبحاث متقدم للمياه وآخر التقنيات العالمية المرتبطة بها في هذا المجال. وبما أن الوقف هو للمياه التي هي أساس الحياة فهناك أمور تتعلق بالإحياء مثل إنشاء مراكز غسيل الكُلى وإحياء المساحة الخضراء في جدة وجعل جائزة سنوية لأفضل بحث وغيرها، كثير يستطيع أن يساهم وقف العين العزيزية بها ويحقق رضا الواقف كما أراد، طيب الله ثراه.