-A +A
بشرى فيصل السباعي
في ظل النكوص الحاصل بالواقع السياسي والديني والثقافي في الشرق والغرب عن ثقافة ونموذج التحضر والتطور باتجاه العودة إلى نموذج العصبيات البدائية ما قبل العصر الحديث ضمن تيار الديماغوجية المدمر الذي يجتاح العالم -الديماغوجية هي: الخطاب المهيج للعصبيات/‏‏الشوفينية والانفعالات العدوانية لدى الجمهور تجاه من ليس من عصبتهم لكى يستغلها السيكوباتي صاحب الخطاب الديماغوجي/‏ ‏الشعوبي/‏‏ الغوغائي لمآربه ومكاسبه الخاصة على حساب عموم الناس سواء من الفئة المستهدفة بالتحريض أو الفئة التي يتم تحريضها على حد سواء وإن كان يزعم أنها لصالح تحقيق اليوتوبيا الموعودة «جعل البلاد والأمة عظيمة»، ويكون هذا عبر اللعب على وتر إحباطات جمهوره وآمالهم وعصبياتهم وجهلهم ومخاوفهم، وتملقهم عاطفيا بالمديح والإطراء «للأنا» الجماعية، الأمر الذي يشعرهم بنشوة الفوقية على من عداهم وتحقير كل من هو ليس من عصبتهم ومعاداتهم، ولذا الديماغوجية هي المحرك للحروب والإرهاب والإبادة والمظالم الجماعية أيّاً كان موضوع تحريضها- لكن هل البغضاء وعدوانيتها هي فعلا ما سيجعل البلد أو الأمة عظيمة بحق؟ ويعيد لها الأمجاد المزعومة؟ الحقيقة أن التحريش على البغضاء هو البديل الرديء عن أهم صفات القائد الناجح والتي يلجأ إليها القادة السيئون المفتقرون لصفات القيادية الإيجابية الحقيقية وهذه الصفة للقائد الناجح هي قدرته على توليد الانسجام والتناغم والتوحد والتآلف والتعاون والأخوة في فريق عمله أو شعبه وهذه الصفات تتطلب أن تكون شخصية القائد عالية الثقافة والتطور والرقي، ولذا عندما يصل إلى منصب القيادة من يفتقر الى المؤهلات القيادية الحقيقية يتخذ بديلا رديئا عن كل نمط من أنماط القيادة الإيجابية؛ ولذا لعجزه عن حشد الجماهير حوله عبر توليد التناغم والانسجام والألفة يقوم بالنمط البدائي الغرائزي للتحريش بين الناس بالبغضاء كما يتم التحريش بين الحيوانات لدفعها للصراع مع بعضها بدون وجود أي سبب أو مكسب أو دافع لديها للصراع سوى أنه تم التحريش بينها من قبل طرف خارجي، والتحريض والتحريش بالبغضاء والعدوانية لا يتطلب أي مهارات أو علم أو ثقافة أو ترق وتطور في مستوى النضج والوعي، بينما توليد الألفة والتناغم والانسجام والوحدة يتطلب كل هذا، ولذا تبدو القدرة على توليد الألفة بين الناس أشبه بمعجزة حقيقية كما توحي بذلك الآية (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ {8/‏63}). ولذا أهم ما يظهر ويثبت أن أي زعيم هو قائد عظيم بحق أن يكون أثره هو نشر الألفة والتناغم والانسجام بين الناس، سواء أكان زعيما سياسيا أو دينيا أو ثقافيا وفكريا أو اجتماعيا، والعكس صحيح فأول وأهم وأبرز صفات الزعيم السيئ عديم الكفاءة والاستحقاق لمكانته هي تبنيه للنمط الديماغوجي القائم على نشر البغضاء والتحريش بين الناس وتفريقهم شيعا أي عصبا متباغضة متعادية من باب سياسة «فرق تسد» (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ {28/‏4}). وهذه دائما وأبدا تكون بداية طريق التدمير الذاتي من ذلك الشعب لنفسه وبلده كما هو حاصل حاليا في الهند حسب تقارير الهيئات الدولية الحقوقية ووزارة الخارجية الأمريكية حتى أن الأكاديمي والمفكر الأمريكي السياسي اليهودي «نعوم تشومسكي» البالغ من العمر حوالي المائة سنة خرج عن عزلته مؤخرا بمقطع مسجل خاص ليعبر فيه عن قلقه البالغ من بدء مخطط تطهير ديني ضد الأقلية المسلمة في الهند، وللأسف أن مواد الترفيه جرى توظيفها لغاية نشر البغضاء والتحريش والتحريض الديماغوجي، ولذا من يريد فعل شيء يجعل العالم أفضل فيجب أن يساهم في إنتاج مواد إعلامية وفنية وترفيهية جماهيرية تنشر الألفة والتناغم والانسجام وتمتنع عن كل ما يمت للبغضاء والعدوانية التحريضية بصلة بما في ذلك التحريض على كره الكارهين، فأن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام كما يقول المثل، والنبي وجه للامتناع عن لعن الشيطان واستبداله بالاستعانة بالله، فهذه هي الإيجابية؛ أن تبادل الإساءة بالإحسان وليس أن تقابل الكره بالكره، والتحريض والتحريش.. بمثله، إنما أن تقابله بثقافة الإيجابية والألفة والطيبة والتحضر والتطور والرقي، قال عليه السلام: (دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد، والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين -أي تزيل دين المبغض بالكامل- والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا -انشروا- السلام بينكم) رواه أحمد والترمذي. والسلام المقصود هنا والمورث للمحبة ليس مجرد إلقاء التحية بمصطلح السلام إنما السلام المادي والمعنوي الواقعي العملي، وهذه هي ثقافة التحضر والتطور والتقدم المضادة لثقافة البغضاء والتحريش البدائية المتخلفة الهدامة.