-A +A
علي بن محمد الرباعي
يغدو الاختبار الحقيقي لأخلاق وعقيدة وثقافة المسلم ناجعاً خارج المسجد، فمحكّه الفعلي البيت والشارع والسوق، لا المسجد فقط. والله قبل اللقاء معه في دور العبادة، لا بد أن نلتقيه بالقلوب الراضية المطمئنة بأن الدِّين الذي تحمله ربانياً حقيقة لا ادعاء.

لا تزال الصورة المثالية للنبي صلى الله عليه وسلم، حال نزوله من غار حراء تداعب مخيلتي، وتثير دهشتي، فلم ينزل متباهياً، أو مهايطاً، أو صارخاً، أو معلناً عن قدومه للتو من اجتماع مع أمين الوحي جبريل عليه السلام، بل نزل متهيّباً، مذهولاً، وتعتريه قشعريرة خوف وتساؤل واستشعار مسؤولية مستقبلية، لا فلاشات، ولا تمظهرات، بل تواضع تنحني أمام نصاعته وأصالته وصدقه كل صور ومظاهر الشكلانية والجبروت.


وفي السور الأول من القرآن يهيؤه ربه لتحمل العبء (المدثّر) و(المزّمل) موضحاً له صراحة عظم وثقل مسؤولية الاصطفاء (إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً) وأكاد أجزم، أن بعض ما توارثناه من ممارسات دينية، ليست من مراد الشارع الحكيم، كونها لا تُربّي وجداناً، ولا تُهذّبُ سلوكاً، ولا ترتقي بأخلاق، وكأنها مفرغة من محتواها، وخالية من مضمونها (قالتِ الأعرابُ آمنّا، قُل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمانُ في قلوبكم) فالدِّين ليس لباساً نرتديه، ولا دقناً نُربيه، ولا طقساً نؤديه.

كثيرون ينجحون في الجوامع ويُخفقون في الواقع، يتقنون الأقوال، ولا ينتقون الأفعال، وقلة ربما أخفقوا في دور العبادات، إلا أنهم ينجحون ويتفوقون بأخلاقهم في التعاملات والعادات والسلوكيات.

في رمضان يُفترض أن يسمو القرآن بالإنسان لا أن ينحدر الآدمي بما فيه منه إلى مراتع الشَّّر والفسوق والعصيان، وبالصيام نتوقع أن يعف اللسان والنظر والسمع واليد والرجل عن التطاول وعن الإساءة، لا أن تسجّل كل يوم جناية بذريعة الصوم.

ولو افترضنا أننا أعددنا في أوّل رمضان استمارة شخصية، أو فتحنا الملاحظات في جوالاتنا، لندوّن بها يومياً حصيلتنا خلال 12 ساعة صيام، مما يصدر عنا من الأفعال والأقوال والأعمال المأجورين أو المأزورين عليها فما الذي سنخرج به من الرصد والتدوين مع كل غروب شمس ونحن نردد على مائدة الإفطار اللهم لك صُمنا؟

لا ريب أن طهارة القلب، تؤثر في تحمل العبادة وأدائها، والعبادات الشكلية لا تكفي لحياة إنسانية سعيدة وآمنة، والتربية الحديثة تؤكد أن تنمية القوى الروحية في الفرد أجدر بكثير من تنمية قواه الذهنية والبدنية، إذ بأرواحنا الربانية نصل إلى درجة النضج، المؤهل لدور مفيد ونافع، لأهل بلدك أو وطنك والبشرية، بصرف النظر عن اختلافهم في اللغات والأديان والأجناس والأوطان.

رمضان موسم خير وبركة، لكننا نشهد فيه مآسيَ، من مظاهر الحسد، والشحناء، والعراك بالأيدي، والتشاتم باللسان؛ بسبب موقف سيارة، أو أسبقية اصطفاف شبعي أمام محل لبيع وجبات، ما يُوحي بالفشل في الاستفادة من الموسم، والعجز عن تحرير الفكر والوعي والشعور من قيود الأنانية البائسة، والأثرة النزقة.

قال أحد شعراء الغرب قبل مئات السنين (أعرف الخير لكن الشر يستبد بي)، وبعضنا يقضي أيام حياته في تصفية حسابات، ويخل عملياً بما يجب عليه الالتزام به، علماً بأنه يصلّي الفروض الخمسة في وقتها، لكنه لا يحترم المواعيد، ويلتزم بوقت السحور والفطور ولا يُقيم وزناً للوقت، ويتعاهد المساجد والمصاحف، ولا يفي بالعهود والمواثيق، ويُظهر الديانة ويخون الأمانة.

البعض يستفيد من رمضان دروساً ويغدو ببركة الشهر خلقاً آخر، وهناك من يدخل رمضان ويخرج وهو على «حطة إيدك»، ونتساءل: كم من المسلمين أضاف لهم رمضان مزايا و صفات، سمت بأرواحهم، ومشاعرهم، وأخلاقهم، فلم يشتكِ منهم جار، ولم يبكِ منهم أجير، ولم يتأفف من قطيعتهم ذوو رحم أو قُربى؟

ذهب مجموعة لأحد الأشخاص للإصلاح بينه وشقيقه، فتلا أحدهم عليه من الآيات والأحاديث ما يرقق به قلبه ليحنّ على أخيه، وبعدما نشف ريق الواعظ، قال الشقيق كل الكلام اللي قلته أعرفه، والآيات حافظها، والنذارات صميتها عن ظهر قلب وأنا في الابتدائية، لكن والله ما أتصالح مع أخي لو يخرج أبي من قبره؟!

أتوقّع عندما يكتشف المسلمون أهمية الأخلاق، ويعتنون بها جيداً سيتغير وضع الفرد والمجتمع، وسيلفت الدِّين الذي نحمله نظر وإعجاب الآخرين.

تقبل الله منّا ومنكم، وعيدكم يعود.