-A +A
أسامة يماني
لقد أخذ الأولون على عاتقهم تطوير الفقه وأصوله وتحديد مصادره لكي يتواكب ويتماشى مع عصرهم وحاجاتهم الإنسانية ونظامهم السياسي ودولتهم واستقرارها ورفاهيتها وذلك مع بدايات القرن الثاني للهجرة تقريباً. وقد برز من هؤلاء العلماء الإمام الشافعي كأحد أهم العلماء الذين أسسوا علم الفقه والأصول. هذا العلم الذي كان يتماشى مع ضروراتهم وزمانهم وحياتهم الاقتصادية والاجتماعية. وسعى إلى تطوير هذه العلوم الإنسانية كثير من المجتهدين مثل إمام الحرمين الجويني والغزالي وابن رشد وتقي الدين السبكي وغيرهم. إن مؤسسة القضاء في الفقه الإسلامي خير مثال على ما جرى من تطور لهذه المؤسسة منذ مرحلة البدايات لما كان يعرف قبل الإسلام بدور التحكيم الذي ينهض به العقلاء من رجالات القبيلة، وصولاً إلى مرحلة من مرحلة النضج الذي يعين فيه القاضي من قبل السلطة المركزية وظهور التراتبية الإدارية. كما تكشف المراجع الموثوقة عن العلاقة الوثيقة بين السياسة والفقه في الحضارة الإسلامية. هكذا استطاع الأولون أن يخلقوا حضارة متكاملة العناصر صالحة لعهدهم وآلياتهم وقيمهم ومفاهيمهم.

غير أنه ليس من العقل ولا المنطق أن يحكم هذا التراث حاضرنا ومستقبلنا ولا أن يكون مرجعياً لنمط تفكيرنا. كما أنه ليس من الصواب أن نحكم على أحداث وأوضاع الماضي بما انتهت إليه الأحوال في مجتمعاتنا المعاصرة ونقيس عليها. لذا نجد أن حركة الإصلاح الديني والتجديد التي ظهرت مع مطلع العصور العربية الحديثة، لتجديد التراث وتطويره من قبل مجتهدين مثل جمال الدين الأفغاني ومن جاء بعده، كمحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وشهاب الدين محمود ومحمود شكري لم تنجح لأنها لم تنتج علوماً جديدة ولا واقعاً جديداً، بل استعادت عصور الشقاق وحروب الفرق العقائدية والسياسية التي ضربت الأمة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه. إن الانكفاء على الماضي ومحاولة تفكيكه وتطويره سيجعلنا منشغلين بالماضي بدلاً من أن ننشغل بالمستقبل.


إن مقاومة أصحاب الأصولية التراثية ورفضهم أعمال الفكر والخروج على القواعد والأصول الفقهية التراثية، وحرصهم على الاجتهاد المبني على القياس متى توفرت العلة، وكذلك على مفهوم النص لديهم القائم على التفاسير والنقل وليس على العقل والغاية والمصلحة والمعقولية، يجعل التراث يحكمنا، وبذلك نصبح أسيرين الماضي ومحكومين به غير قادرين على خلق فقه وأصولية معاصرة، وعاجزين عن استخدام العقل والفكر لما فيه المصلحة وما يتماشى مع روح العصر للانطلاق للمستقبل. إن أحد أهم الأسباب التي مكّنت الأولين من خلق فقه وأصولية هو إعمالهم العقل والمنطق؛ ليجدوا حلولاً صالحة لزمانهم، حيث كانوا يحيلون الحوادث إلى تعليلها الذي يجيزه المنطق العقلي، وكان الإمام الغزالي مِمَّنْ يرى ذلك، حين قال أي من نصوص الشرع، لا يتفق معناه الظاهر مع العقل، علمنا أنه لا بد أن يكون لذلك النص معنى غير معناه الظاهر ووجب علينا أن نحاول تأويله تأويلاً يخرج منه المعنى المقبول عقلاً، وهذا قول الغزالي بنصه: «إن لنا معياراً في التأويل، وهو أن ما دل نظر العقل ودليله على بطلان ظاهره، علمنا ضرورة أن المراد غير ذلك»، هذا هو تراثنا إذا أردتم من التراث هادياً، إن هؤلاء الأئمة لم يقولوا إلا ما تمليه البديهة، لكننا نعيد أقوالهم على أسماعنا، لعلنا نزيل عن أنفسنا شيئاً مما أخذ يكتنفها من ريبة في عقل الإنسان.

لقد صاغ الأوائل هذا التراث العظيم تحت نظر الدولة والسلطات ورعايتها في ذلك الزمان؛ لهذا كان فقههم صالحاً لزمانهم وآلياتهم ومعيشتهم. إن دور السلطة كبير وضروري ومؤثر في إعادة صياغة الفقه والأصولية وذلك أمر يكشفه التاريخ. فإنه لم يكن لأوروبا أن تنهض من ظلامها وتخلفها إلا بتدخل الأمراء والسلطات في حماية المجددين. كما أن تراثنا لم يصل إلى ما وصل إليه إلا برعاية السلاطين والخلفاء في ذلك الزمان.

إن المؤسسات الدينية والجامعات والمراكز البحثية لن تقوم بالإصلاح من تلقاء نفسها؛ بل في واقعها تقاوم التغيير والتطوير وتركن إلى بقاء الحال على ما هو عليه؛ لهذا فشلت محاولات التجديد والتطوير في عالمنا الإسلامي؛ لأن المؤسسات الدينية وقفت ضد التطوير.

نحن في حاجة ماسة لتطوير الفقه والأصولية لتتماشى مع روح العصر، وخاصة أن العالم قادم إلى عالم متعدد الأقطاب يجب أن يكون لعالمنا الإسلامي دور فيه؛ لحماية مقدراته وثرواته التي هيمن عليها الغرب بنزعته الاستعمارية كما شاهدنا في العصر الحديث.