لطالما كانت الخلافات بين الدول أمراً معتاداً، وتتعدد أسباب الخلافات ما بين كونها سياسية متعلقة باختلاف الرؤى ووجهات النظر، أو جغرافية متعلقة بأطماع التوسع والتمدد، أو اقتصادية كما هو الحال في الخلافات التي تدور بين أعضاء منظمة أوبك، وتعتبر المفاوضات دائماً هي الخيار المفضل أمام غالبية الدول المتنازعة حتى لا يستفحل الخلاف، وفي الغالب الأعم تمارس بعض الجهات الوساطة الدولية لنزع فتيل الأزمة، وقد تكون هذه الجهود منظمات دولية أو جهوداً شخصية من بعض القادة والسياسيين الذين يحظون بقبول من كلا الطرفين.
أما المملكة فهي تفضل على الدوام اللجوء لخيار الجلوس على طاولة المفاوضات في حال اندلاع أي خلاف بينها وبين جيرانها أو بينها وبين الدول الأخرى، لأن ذلك ينبع من استراتيجية دائمة تيقنت من فعاليتها ودأبت على تطبيقها منذ تأسيسها، وهي أن الدبلوماسية الهادئة قادرة على حل جميع الخلافات مهما بدت عميقة، كما أنها تسعى دوماً للقيام بدور الوساطة لحل أي قضية إقليمية؛ ليقينها بأن تفاقم الخلافات يؤدي لا محالة إلى صراعات تجر إليها جميع دول المنطقة.
لكن وللأسف.. لا تنظر بعض الأطراف إلى هذا الخيار كحل أمثل، وذلك لرغبتها في فرض شروط مسبقة قبل خوض أي مفاوضات، وغالباً ما تكون معظم هذه الشروط تعسفية، بل وقد تمس سيادة الطرف الآخر على نحو لا يمكنه القبول به، ولا شك أن فرض الشروط التعسفية مقدماً ينسف أي جهود ترمي للوصول إلى حلول دائمة وحقيقية، وحتى لو قبلت بعض الأطراف بالاتفاقيات المبنية على شروط مسبقة على مضض، فإنها ستكون عرضة للفسخ في المستقبل؛ لأن ما بني على الباطل مصيره الحتمي الفشل طال الزمن أو قصر.
لتوضيح ذلك دعونا نعود لما يقرب من الأربعة عقود وتحديداً للحرب العراقية الإيرانية، التي تعود جذورها لخلافات حدودية بين الدولتين على مياه شط العرب، وبعد وساطة الرئيس الجزائري الأسبق بومدين قبِل الطرفان تقسيم مياه شط العرب مناصفة بينهما عام 1975، غير أنه بعد وصول الخميني لمقاليد الحكم في إيران اعتبر أن الاتفاقيات السابقة في حكم الملغاة، مما أجج لهيب الصراع مرة أخرى حتى اندلعت الحرب الفعلية عام 1980.
وقد سعت المملكة وقتئذٍ بقوة -استناداً على ثقلها السياسي- إلى إيقاف نزيف الحرب لعلمها مسبقاً بنتائجها الكارثية، ليس فقط على الطرفين المتنازعين وإنما على دول المنطقة بأكملها، وعلى الرغم من قبول الجانب العراقي بهذه الوساطة إلا أن الثأر والأطماع الدفينة لدى الخميني تجاوزت كثيراً الخلافات الحدودية؛ فخلال المفاوضات طالب الخميني بتغيير النظام الحاكم في العراق بأكمله كشرط لوقف الحرب، الأمر الذي أحرج الوسطاء الإقليميين بل وحتى الدوليين؛ فلا يمكن -لا عرفاً ولا دستوراً- وضع مثل هذا الشرط على طاولة المفاوضات، وذلك لأسباب عديدة لعل أهمها أن النظام في طهران لن يتوقف عند حدود العراق بل سيستمر في التطاول إلى ما هو أبعد من ذلك.
وعلى الرغم من استمرار الحرب عقوداً عدة ما بين شد وجذب من كلا الطرفين، إلا أن النظامين العراقي والإيراني أصبحا مهترئين بسبب الغضب الشعبي الذي اندلع داخل كلا الدولتين لوقف نزيف الدم، مما أجبر الخميني على قبول وقف إطلاق النار بعد أن تجرع مرارة الهزيمة وانهارت شعبيته بعد أن شارف عدد قتلى الحرب على المليون قتيل، وضعفه من الجرحى والمعاقين.
تساؤلات كثيرة بعد وقف الحرب العبثية طرحت نفسها بين كلا الشعبين وبين جميع السياسيين والمحللين، لعل أهمها التساؤل بشأن جدوى تلك الحرب بعد أن عاد كلا الطرفين إلى المربع الأول، وقد ازدادت التساؤلات عقب سعي صدام للحصول على موافقة إيران على ما أسماه «مبادرة كريمة» لاقتسام مياه شط العرب، وذلك عقب غزوه الأحمق للكويت، وقد تجاوزت خسائر دول المنطقة اقتصادياً بسبب تلك الصراعات مئات المليارات من الدولارات، بخلاف خسائر البنية التحتية التي دمرت معظم مرافق الدولتين، وأصبح هاجس الفقر والجوع مهيمناً على كل شارع في كل مدينة وقرية في كل منهما.
من المهم جداً استلهام العبر من التاريخ فيما يتعلق بفهم القضايا المستقبلية، فالإصرار المتعمد على عدم الجلوس على طاولة المفاوضات بحيادية من قبل الأطراف المتنازعة لن يجلب إلا الدمار، ويبدو أن إيران وجدت ضالتها في زوال نظام صدام حسين، وفي ثورات ما يسمى بالربيع العربي الذي أفرز نظم حكم مفككة أقرب للفوضى منها للاستقرار، مما مكنها من التدخل السافر فيها علناً، ويبدو أن نظام طهران أدمن سياسة تكرار الخطأ، فإيران لم تتعظ من كافة الأزمات التي مرت بها، ولم تمل من اتباع استراتيجية بناء تحالفات غير شرعية داخل كل دولة (عبر دعم ميليشيات مسلحة تجنباً للصدام المباشر) فإيران لا تفرق كثيراً بين إراقة دم أبناء المنطقة وبين إراقة دم شعبها، فالغاية عندها تبرر الوسيلة.
قد تراهن إيران في الوقت الحالي على الإدارة الأمريكية المتراخية في حل أزمة الملف النووي، واللامبالية تجاه أطماعها الأخرى في المنطقة، غير أنه عليها تذكر الإدارة السابقة التي تولاها الرئيس الجمهوري ترمب، وتذكر الصرامة التي أبداها في تعامله معها ومع أزلامها، لتدرك أن الإدارات الأمريكية متغيرة ولا تستقر على حال، والحل الوحيد الناجع هو أن تجلس مع أشقائها في المنطقة على طاولة المفاوضات لتحل جميع الخلافات وتنهي أزماتها الدبلوماسية والاقتصادية، فالمراهنة على حليف متذبذب هو أشبه بالمسكنات التي لا تشفي سقماً ولا تقدم علاجاً.
أما المملكة فهي تفضل على الدوام اللجوء لخيار الجلوس على طاولة المفاوضات في حال اندلاع أي خلاف بينها وبين جيرانها أو بينها وبين الدول الأخرى، لأن ذلك ينبع من استراتيجية دائمة تيقنت من فعاليتها ودأبت على تطبيقها منذ تأسيسها، وهي أن الدبلوماسية الهادئة قادرة على حل جميع الخلافات مهما بدت عميقة، كما أنها تسعى دوماً للقيام بدور الوساطة لحل أي قضية إقليمية؛ ليقينها بأن تفاقم الخلافات يؤدي لا محالة إلى صراعات تجر إليها جميع دول المنطقة.
لكن وللأسف.. لا تنظر بعض الأطراف إلى هذا الخيار كحل أمثل، وذلك لرغبتها في فرض شروط مسبقة قبل خوض أي مفاوضات، وغالباً ما تكون معظم هذه الشروط تعسفية، بل وقد تمس سيادة الطرف الآخر على نحو لا يمكنه القبول به، ولا شك أن فرض الشروط التعسفية مقدماً ينسف أي جهود ترمي للوصول إلى حلول دائمة وحقيقية، وحتى لو قبلت بعض الأطراف بالاتفاقيات المبنية على شروط مسبقة على مضض، فإنها ستكون عرضة للفسخ في المستقبل؛ لأن ما بني على الباطل مصيره الحتمي الفشل طال الزمن أو قصر.
لتوضيح ذلك دعونا نعود لما يقرب من الأربعة عقود وتحديداً للحرب العراقية الإيرانية، التي تعود جذورها لخلافات حدودية بين الدولتين على مياه شط العرب، وبعد وساطة الرئيس الجزائري الأسبق بومدين قبِل الطرفان تقسيم مياه شط العرب مناصفة بينهما عام 1975، غير أنه بعد وصول الخميني لمقاليد الحكم في إيران اعتبر أن الاتفاقيات السابقة في حكم الملغاة، مما أجج لهيب الصراع مرة أخرى حتى اندلعت الحرب الفعلية عام 1980.
وقد سعت المملكة وقتئذٍ بقوة -استناداً على ثقلها السياسي- إلى إيقاف نزيف الحرب لعلمها مسبقاً بنتائجها الكارثية، ليس فقط على الطرفين المتنازعين وإنما على دول المنطقة بأكملها، وعلى الرغم من قبول الجانب العراقي بهذه الوساطة إلا أن الثأر والأطماع الدفينة لدى الخميني تجاوزت كثيراً الخلافات الحدودية؛ فخلال المفاوضات طالب الخميني بتغيير النظام الحاكم في العراق بأكمله كشرط لوقف الحرب، الأمر الذي أحرج الوسطاء الإقليميين بل وحتى الدوليين؛ فلا يمكن -لا عرفاً ولا دستوراً- وضع مثل هذا الشرط على طاولة المفاوضات، وذلك لأسباب عديدة لعل أهمها أن النظام في طهران لن يتوقف عند حدود العراق بل سيستمر في التطاول إلى ما هو أبعد من ذلك.
وعلى الرغم من استمرار الحرب عقوداً عدة ما بين شد وجذب من كلا الطرفين، إلا أن النظامين العراقي والإيراني أصبحا مهترئين بسبب الغضب الشعبي الذي اندلع داخل كلا الدولتين لوقف نزيف الدم، مما أجبر الخميني على قبول وقف إطلاق النار بعد أن تجرع مرارة الهزيمة وانهارت شعبيته بعد أن شارف عدد قتلى الحرب على المليون قتيل، وضعفه من الجرحى والمعاقين.
تساؤلات كثيرة بعد وقف الحرب العبثية طرحت نفسها بين كلا الشعبين وبين جميع السياسيين والمحللين، لعل أهمها التساؤل بشأن جدوى تلك الحرب بعد أن عاد كلا الطرفين إلى المربع الأول، وقد ازدادت التساؤلات عقب سعي صدام للحصول على موافقة إيران على ما أسماه «مبادرة كريمة» لاقتسام مياه شط العرب، وذلك عقب غزوه الأحمق للكويت، وقد تجاوزت خسائر دول المنطقة اقتصادياً بسبب تلك الصراعات مئات المليارات من الدولارات، بخلاف خسائر البنية التحتية التي دمرت معظم مرافق الدولتين، وأصبح هاجس الفقر والجوع مهيمناً على كل شارع في كل مدينة وقرية في كل منهما.
من المهم جداً استلهام العبر من التاريخ فيما يتعلق بفهم القضايا المستقبلية، فالإصرار المتعمد على عدم الجلوس على طاولة المفاوضات بحيادية من قبل الأطراف المتنازعة لن يجلب إلا الدمار، ويبدو أن إيران وجدت ضالتها في زوال نظام صدام حسين، وفي ثورات ما يسمى بالربيع العربي الذي أفرز نظم حكم مفككة أقرب للفوضى منها للاستقرار، مما مكنها من التدخل السافر فيها علناً، ويبدو أن نظام طهران أدمن سياسة تكرار الخطأ، فإيران لم تتعظ من كافة الأزمات التي مرت بها، ولم تمل من اتباع استراتيجية بناء تحالفات غير شرعية داخل كل دولة (عبر دعم ميليشيات مسلحة تجنباً للصدام المباشر) فإيران لا تفرق كثيراً بين إراقة دم أبناء المنطقة وبين إراقة دم شعبها، فالغاية عندها تبرر الوسيلة.
قد تراهن إيران في الوقت الحالي على الإدارة الأمريكية المتراخية في حل أزمة الملف النووي، واللامبالية تجاه أطماعها الأخرى في المنطقة، غير أنه عليها تذكر الإدارة السابقة التي تولاها الرئيس الجمهوري ترمب، وتذكر الصرامة التي أبداها في تعامله معها ومع أزلامها، لتدرك أن الإدارات الأمريكية متغيرة ولا تستقر على حال، والحل الوحيد الناجع هو أن تجلس مع أشقائها في المنطقة على طاولة المفاوضات لتحل جميع الخلافات وتنهي أزماتها الدبلوماسية والاقتصادية، فالمراهنة على حليف متذبذب هو أشبه بالمسكنات التي لا تشفي سقماً ولا تقدم علاجاً.