-A +A
علي بن محمد الرباعي
لم أكن أدري، أن أستاذنا، في فصل من فصول المرحلة الجامعية (تنظيمي إخواني)، إلا حين دخل معي ودخلتُ معه، في جدل طويل؛ حول صحة سند ومتن رسائل النبي عليه الصلاة والسلام للملوك، وهل هي دعوةٌ وإخبار؛ أم تهديد وإنذار، بحكم ما ورد في بعضها من عبارة (أسلِمْ تسلم)، وكان تركيزي على توقيت الرسائل، الذي جاء إثر صُلح الحديبية، ذلك الصُلح القائم على تنازلات، منها قبول الرسول عليه الصلاة والسلام تأجيل العمرة، والعودة للمدينة، وكانت الرسائل قبل بناء جيش يقارع جيوش تلك الممالك.

وأقمتُ مقارنة بين أتباع الأديان، الذين عاشوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة، وبين الملوك خارج جزيرة العرب، فهنا قُرب مكاني يُتيح إلزام المخالفين بالإسلام بالعقيدة والدِّين، إلا أنه لم يثبت أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال ليهودي أو نصراني ممن هم معه في المدينة: (أسْلِم تسلم). وإذا لم يقلها لمن هم في دائرة مجتمعه، وتحت إدارته، كيف نتصور أن يقولها لملوك ممالك قائمة وقوية، فالأصل مخاطبتهم بالليّن من القول لا الفظ الغليظ، إلا إن كان القصد من (تسلم) تنجو من سخط الله وعقابه، ومن المقاربات التي طرحتها أن رسولنا الكريم نبي رحمة، والرحمة ليس من مقتضياتها التهديد والتنديد بما كانوا عليه، ثم إن بعض الملوك استقبلوا المسلمين المهاجرين هجرتين، ومنهم النجاشي، فكيف يهدد رسول الرحمة ملكاً عادلاً وكريماً مضيافاً؟


كثيرة هي الأسئلة التي دارت في رأسي، وجرت على لساني، مبدياً تحفظاً على العُنف، كون القرآن القطعي في ثبوته ودلالته أعطى للأفراد والمجتمعات خيارات، وصرّح بأنه لا إكراه في الدِّين، وإن أذن بمطالبة، الأقليات بدفع الجزية، مقابل الحماية، وحفظ الحقوق المدنية، وقلتُ لأستاذي: إقناع غير المسلم بالإسلام، وتحبيب المخالف، يحتاج للترغيب لا الترهيب.. وربما كان للرسائل خصوصية، أو ربما أنها لا تأخذ منحى الوعيد، بل هي دعوة للإسلام والسلام. ولعل أكثر ما أثار غضب وانفعال أستاذي عندما سألته: هل جاءت الأديان لتعمل في صالح الإنسان أم أنها ضده؟، وهل الرسالة المحمدية مُنْبَتّة، عما قبلها من الرسالات؟، لتتخذ من أتباع الديانات السابقة موقفاً حِدّياً وعِدائياً؟ لتعزز مشروعيتها بحمل السلاح؟

غضب أستاذي، وتوعّد وندّد بما قُلتُ، وهددني بالحرمان، وبالطبع لم نكن ندرك في عام 1405هـ، تغلغل الإسلام الحركي في مفاصل وأوصال تعليمنا ومؤسساتنا، ولعلي لم أنتبه أن أستاذ الحضارة الإسلامية حينها، لا يريد من إثبات رسائل النبي إلا تحريضنا على (الغرب الكافر) وإعداد العُدة لحربهم، وإخضاعهم شأن العهد الإسلامي الفارض نفسه كما زعم بالقوة والقهر والغلبة، ولم أجد مناصاً حينها من المهادنة؛ لتفادي ردة فعله الغاضبة، فاعتذرتُ منه وسالمته، وسلّمتُ بما قال؛ لأسلم من الرسوب.

منذ أيام أعدتُ السؤال على المفكر المصري، الدكتور عبدالجواد ياسين، فكان جوابه: «لم تتم قراءة رسائل النبي عليه السلام قراءة نقدية، شأنها في ذلك شأن جميع النصوص النبوية التي وردت في شكل روايات آحادية، فالقراءات النقدية القليلة لا تزال تشتغل بآليات الدرس التقليدي لعلم الحديث التي تدور حول الإسناد وتتوجس من الخوض في الدلالة، وحتى قراءة الدلالة لم ترق إلى مستوى الدراسات التأويلية الحديثة (الهيرمونطيقا) التي تنطلق من الواقع، ثم يرتبط معنى النص -أي نص- بسياقات المؤول أي سياقات الحاضر (الآني المتغير باستمرار) مثلما يرتبط بسياقات المؤلف في الماضي».

حين يستعيد جيلي سيرته الدراسية، يتذكّر كيف اُنتزعت من طوابير الصباحات النقيّة؛ أهازيج «صباح الحُبّ مدرستي، صباح العلم والنور، إليك اشتقت في أمسي؛ فزاد اليوم تبكير) وبلاد العُرْب أوطاني، منَ الشّـامِ لبغدانِ، ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ، إلى مِصـرَ فتطوانِ» وحلّت محلها «قسماً بمن حلّ القسم، سيزول عهدك يا صنم» «وخنجري كفي، وكفي خنجري»، و«مؤامرة تدور على الشباب؛ ليُقلع عن معانقة الحِرابِ» و«ما للمآذن تشتكي وتنوح، وتقول إن فؤادها مجروح.. تبكي وتندب حسرة وتألما، يا مسلمون دم الهدى مسفوح» و«شبابنا هيا إلى المعالي، هيا اصعدوا شوامخ الجبال، هيّا اصعدوا يا معشر الرجال؛ قولوا لكل الناس لا نُبالي» وكل هذه الأناشيد الحماسية، أحالت يومياتنا لعِدة أعوام ساحة وغى، حتى في ملاعب كرة القدم، وشاع إطلاق كنيات وألقاب على كل متحمس للفكرة فمِنّا (أبو عبيدة العصر) و(سيف الله هذا الزمان) و(عُقبة الجزيرة) و(قتيبة السراة) وتلبّست بعض الصداقين حالة طهرانية، وانقاد بسهولة للراسمين طريق الشهادة المرصودة على الطريقة الإخوانية، والجنة الموعودة، متطلعاً للموت، بصرف النظر عن الراية التي يقاتل تحتها، والفكرة التي ينتمي إليها، والعدو الذي ينازله، والغايات والمصالح التي تترتب عليها، والمفاسد الناجمة عنها، وبعضهم لا يزال مُشرّداً في مواطن ضياع، لا حيٌّ فيُرجى، ولا ميّتٌ فيُنسى.

ولو رصدنا مناهج وخطاب الحركيين لوجدناها تعج بقصص مركبة، وحكايات ملفقة، غايتها الشحن العاطفي، للشباب حد الشعور بالاغتراب، ومن ثم النفير للبحث عن وطن يتيح لهم فرص مواجهة الأعداء، ومنازلتهم بأسلحة بسيطة لكنها مباركة كما زعموا، ولو لم يملك أحدهم إلا سكينا لكفته العشرات ممن يذكيهم تذكية الشياه.

يلحظ المراقب لواقع العالم الإسلامي أنه أشبه بالأقليّة، المكفولة بحكم وإدارة القُوى العظمى، فالمسلمون في مركز ضعف، والآخر في موضع القوة والغلبة، وخطابات الشرّ لا تخلو من مبالغة وتدليس للتغرير والتخدير، ومشاكل وأزمات المسلمين ليست من الآخرين المشغولين بأنفسهم تعليماً وتطويراً وعملاً وإنتاجاً، بل من المسلمين المشتغلين والمنشغلين ببعضهم.