-A +A
سعد الصويان
مرت على أمتنا العربية مرحلة من الغيبوبة لم يكن فيها المواطن الغلبان يفرّق بين حضور حفلة أم كلثوم وهي تصدح بأغنية «هل رأى الحب سكارى مثلنا» وحضور خطاب الزعيم. ففي كلتا الحالتين احسب حسابك لتفرِّغ نفسك لمدة لا تقل عن ساعتين ونصف، منها نصف ساعة تضيع في تخبيط الزعيم على الطاولة وكأنما هو يتقمص شخصية هتلر أو ستالين، ونصف ساعة أخرى تضيع في التصفيق والتصفير والهتاف للزعيم «المخبّط». كما يلزمك بعض «المحفزات» التي تضاعف النشوة والانسجام بحيث تصفق أحيانا وبحرارة حتى لو أنك لا تعلم ما الدافع وراء التصفيق، ولا تعي أن وعيك في أغلب الأحيان يُصَفَّق بأفكار ومشاريع سياسية هي أقرب إلى الهلوسة وبعيدة كل البعد عن الواقع السياسي ومستحيلة التنفيذ.

ومع حماس الجمهور يعلو زعيق الزعيم ويتكرر الخبط على الطاولة مع ارتفاع الصراخ والتلويح باليد في الهواء لإضافة جرعة إضافية لحماس الجمهور الملتهب الذي طبع قبلة الموت على التفكير العقلاني وامتطى صهوة العاطفة الشموس حيث وصل إلى مرحلة من النرفانا nirvana تحلل فيها تماما من الحس النقدي وطغت عنده العاطفة على العقل والمنطق وعلى القدرة على التحليل والتقييم. وحينما تضج القاعة بالتصفيق والتصفير يصل حماس الزعيم إلى الذروة فيخرج عن النص ويتحول الخطاب إلى «سواليف» ونكات وسخرية من زعماء الخليج «الرجعيين» -الذين أغدق الله عليهم بنعم لا يستحقونها- وضرورة الثورة عليهم لإجبارهم على تسليم سلطة بلادهم إلى الزعيم «المخبّط» ليقود الأمة إلى شاطئ النجاة لأنه «أبخص». وهو مشهد لطالما سخر منه الرحابنة وفيروز في مسرحياتهم.


رانت على منطقتنا مرحلة كانت هذه هي لغة الخطاب السائد عند عدد من الزعماء والقادة في عالمنا العربي. زعماء لا يفوتهم لبس «البرنيطة» والبزة العسكرية قبل الدخول إلى القاعة لإعطاء الخطاب الصاخب مسحة ثورية. لغتهم لغة فضفاضة ومشاريعهم مشاريع خيالية أو هي من بيت العنكبوت. حجّم هؤلاء مفهوم الثورة واختزلوه في قلب نظام الحكم والاستيلاء على السلطة وتشديد القبضة الأمنية. قدّم الزعيم نفسه على أنه وحده المؤتمن على مستقبل الأمة العربية وأن بقية الزعماء والحكام مجرد خونة وأدوات إمبريالية.

وإن لم تسكرك تلك الزوبعات الخطابية فهناك الأشعار الثورية التي تنضح بالبذاءات اللفظية وتحيل ضوء نهارك إلى ظلمة قاتمة، أولئك الشعراء الثوريون كانوا يحرّمون علينا أن نعيش حياة طبيعية يشوبها شيء من البهجة، بل على كلٍّ منا أن يرفع السلاح ويناضل بصرف النظر عن القضية التي يتبناها، المهم أن ترفع راية الكفاح وأن يضيق صدرك وتكتّم ولا تدخل البهجة إلى نفسك ما لم تَهُدّ أركان الرجعية والرأسمالية العالمية. فثوريتك وانتماؤك الوطني يقاس بمدى ضيقة صدرك على أوضاع الأمة، بل لقد أفسدوا ذوقنا بحيث أصبحت بذاءات البياتي ومن على شاكلته من الشعراء هي المعبّر عن آمال الأمة وطموحاتها، فلا تغرنّك المقدمة الشجيّة: مرينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل، اسمعنا دق قهوى وشمينا ريحة هيل، فالنهاية شتائم مقذعة وبذاءات لفظية اقتلعت من قاع بيت الخلاء، وهي مجرد أنموذج للأشعار الثورية في تلك الحقبة.

لقد وقعنا أنا والكثير من أبناء جيلي ضحية هذا التهريج. فقد خدّرنا هؤلاء الزعماء والخطباء والشعراء وبرمجوا أذهاننا لفترة من الزمن كنا فيها لا نرى التغيير نحو الأفضل إلا من خلال العنف والتدمير والانقلابات وأن الحل في الزعيق والمسيّرات الصاخبة والمظاهرات وتدمير البنى التحتية. بل كنا نحن أبناء الجزيرة العربية نعاني حالة من الاغتراب جعلتنا نشعر بأن بلداننا الخليجية بأنظمتها القائمة، ليست إلا أنظمة رجعية هي أبعد ما تكون عن التطور والتحديث، بالرغم مما أفاء الله عليها من النعم ومن الدلالات الشاخصة التي تفند هذا الظن الفاسد.

في خضم هذا الصخب الثوري والزعيق الخطابي والشعري، لم نكن أنا وأبناء جيلي نتصور، ولا حتى في أجمل أحلامنا، أن الثورة الحقيقية، ثورة المفاهيم والمبادئ والمراحل والإنجازات التنموية والتحديثية، سوف تنطلق من قلب الجزيرة العربية تحديدا. لقد أقنعنا الزعيم «المخبّط» بأننا أقل من أن نفكر بما فيه مصلحتنا، فهذه مهمة موكلة للزعيم، أما نحن فعلينا التصفيق فقط والسير في المظاهرات، أمّا غير كذا فـ«كِل.. وانطمّ».

كم كنا سادرين في الغي وفي غياهب التيه. كم كنا مأخوذين بخطابات وبرامج أولئك الزعماء المخبّطين. ولطالما عيّرونا بالبداوة وأرادوا نهب ثرواتنا لأننا بدو لا نستحق هذه النعم ولا نعرف كيف نتصرف بها. كنا المطمع ولكن شاء الله وأصبحنا القدوة وجاءت النهضة الحقيقية على يد ابن الصحراء.

بعد أن ضيعنا عقودا من أعمارنا وأعمار بلداننا تبيّن لنا أن أولئك الزعماء كانوا «بياعين حكي» وتجّار أوهام، استنفدوا خزائن بلدانهم وجوّعوا شعوبهم جريا وراء طموحاتهم التوسعية. ضاعت عقود من تاريخ أمتنا المعاصر ونحن نجري وراء سراب الوحدة العربية حينا وأوهام الأمة الإسلامية حينا آخر، كل ذلك على حساب الدولة القُطرية التي نُحرت على محراب مشاريع الوحدة المزعومة. لم نكن آنذاك مدركين أن مفهوم الوحدة العربية عند أولئك الزعماء هو ضم الدول الأخرى للاستيلاء على مقدراتها. كنا سادرين في غيّنا حتى صحونا ذات يوم وإذا صدام يجتاح الكويت.

ظل هذا هو الوضع السائد سمة من سمات تاريخنا العربي المعاصر لعدة عقود حتى قيّض الله لأمتنا زعيما حقيقيا يمتلك مقومات الزعامة وصفات القيادة والتخطيط ليصبح هو الأنموذج المحتذى. زعيم يتحدث بلغة الأرقام والمراحل ويخاطب العقول لا العواطف. زعيم يتحدث لنا بهدوء العقل ولغة المنطق والحقائق والخطاب السهل الممتنع. زعيم يريدنا أن نصغي له بكامل وعينا لا بعواطفنا وأن نستوعب ما يقول لأنه يرى فينا شركاء أساسيين وفاعلين في مشروعه النهضوي وخططه التنموية. زعيم يبني مشروعه النهضوي على مقدّرات بلده وعقول أبنائه لا على حلم الاستحواذ على مقدّرات إخوانه العرب. زعيم لا يخطب في الجماهير ويخبط على الطاولات، بل يجري لقاءات تلفزيونية هادئة ومتعقلة يشرح فيها خططه بوضوح ومشاريعه بلغة هادئة وبلغة المراحل والأرقام التي تخاطب العقول لا المشاعر، ويضع ثقته في فريق يختاره من أبناء وطنه مع التأكيد على ضرورة الإنجاز والمحاسبة على التقصير.

من كان يظن يوما من الأيام أن زعيما عربيا سوف يجر الرئيس الأمريكي بالخطام!