التاسع عشر من يونيو هو يوم الأب العالمي من كل عام، وعندما نعود لأصل هذه الأيام العالمية وأهدافها والغرض من إحيائها وتذكرها نجد أنها تمثل قضايا عامة مجتمعية مهمة مصنفة من منظمة الأمم المتحدة. فهناك أيام دولية تحدد من قبلهم ومن الدول الأعضاء ويتم اختيار هذه الأيام على أسس تخدم القضايا العامة التي تدعمها المنظمة بما يخص مثلا نشر السلام والتنمية المستدامة وحماية حقوق الإنسان ودعم العمل الإنساني. مثل هذه الأيام يوم السعادة، ويوم المرأة، ويوم الأب، وإلى آخره من هذه الأيام التي تعكس قيما عالية وقضايا هامة. البعض من الأشخاص يعتقد بتحريمها بغير دليل واضح أو جهل منهم ومحاربة كل ما يختلف عنهم في الرأي وبرمجة الفكر. وجدت هذا اليوم فرصة لأتحدث عن والدي الملهم وإنجازاته في حياته من باب الامتنان والشكر والاحترام، ولإيماني بأن تلك اللبوة من ذاك الأسد بنفس اعتقاد بأن (ذاك الشبل من ذاك الأسد). والأمثال والتراث العربي يؤيد ذلك، فقد قيل كل فتاة بأبيها معجبة، و(البنت بنت أبيها). وفي منظوري بأن أبلغ وصفا للثقة المطلقة هي تلك العلاقة بين الفتاة ووالدها، حيث إنه الرجل الأول الذي يكون له الأثر الأكبر في حياتها مستقبلا.
والدي ضابط متقاعد يحمل العديد من الصفات التي تجعلني أعجب به وأرى أنه رجل عصامي شهم بدأ حياته بمقومات حياة بسيطة جداً، لكنه صنع مستقبلاً مميزاً حافلاً بالإنجازات، خدم وطنه ودينه، فقد شارك في حرب الخليج وحماية الحرم المكي الشريف في قضية جهيمان. عاش في إحدى قرى عسير كشاب بسيط يساعد والده في مهنة الزراعة ورعي الأغنام، لكن طموحه كان مختلفا ويسعى للأفضل منذ صغره. مابين ليلة وضحاها قرر أن يتعلم ويسافر ويبحث عن فرص أخرى. التجربة الأولى أعمال حرة وقبض مبلغ ثمانين ريالاً لتأمين رحلة سفر طويلة إلى الرياض عام 1389 هجرية. وأتخيل في مخيلتي ذاك الشاب الصغير الذي اتخذ قراراً كهذا بالانتقال من منطقتين مختلفتين في الأجواء والبعد عن أهله، وقراراً ارتجالياً بالاعتماد على النفس. وسير السفر في سيارة على ظهر صندوق السيارة لمدة ثلاثة أيام في الصحراء والذهاب لمكان لا يعرف عنه شيئاً. أرى أنه قرار شجاع من رجل عظيم يبحث عن التوسع في الاختيارات والاحتمالات الحياتية الأفضل. وصل ذلك الفارس للرياض وتعلم والتحق بالكلية العسكرية وكان أول مرتب له 250 ريالاً. رجل المستحيلات والقرارات الشجاعة طموحاته مختلفة يؤمن بفكرته ويسعى لها بشجاعة، كما قال الكاتب الأمريكي واين داير في كتابه (سوف تراه عندما تؤمن به). بعد ذلك انتقل والدي الطموح لقطاع عسكري آخر ومرتبة أعلى وفرص تطورية أفضل. اختير بين المئات في وحدة الأمن والحماية في قوات الأمن الخاصة وتعد الوحدة الأصعب وتتطلب رجال مهمات صعبة كوالدي -أطال الله في عمره-. واختير من بين المئات أيضاً في أهم بعثات التدريبات العسكرية بل الأكثرها صعوبة في الأردن وألمانيا وفرنسا. أفكر في ذلك الشاب الصغير عندما وصل المدينة لم يكن في حسبانه أنه سيكون في أسفار ومنعطفات انتقالية وفرص تطورية كهذه. لكن سماته من شجاعة وطموح وإيمان بنفسه وخروجه من منطقة الراحة والمألوف وأصبحت المسارات الأفضل تأخذه معها. يقول جلال الدين الرومي في ذلك: «عندما تقرر أن تبدأ الرحلة سيظهر الطريق».
لم تؤثر مهنة والدي على تعامله معنا فلم يكن عسكرياً في المنزل، كان حنوناً جداً ومربياً فاضلاً. من صفاته الكرم والتسامح ودماثه الخلق، لم أسمع والدي يشكو أبداً أو يتذمر، كان ينظر للحياة بعين الرضى والسلام. ولا أذكر أبداً أن تحدث عن الآخرين بسوء وحتى عن خصومه، فلا أذكر أنه يتحدث عن مشاكله معهم ولسانه رفيع المستوى مهذب. والدي كان باراً بأمه وأبيه -رحمة الله عليهم-، وكان وما زال مسانداً لإخوته وأخواته. محبوب من الجميع، اجتماعي رجل معطاء، يتصف بالحلم والحكمة وفعل الخير، يملك حس بهجة ودعابة، صاحب ابتسامة ساحرة وعيون رمادية راضية متفائلة. هذا والدي (سعيد) كيف لا أكون به معجبة بل لحد الغرور معجبة، حفظك الله وأدام صحتك وعافيتك أنت وأمي الغالية، هو من ذلك الجيل الطيب الذي تحمل صعوبات حياة وقدم تضحيات جبارة صنعت وطنا وواقعا أفضل وجيلاً حالياً يعترف بفضله، وليس كما تقول يا دكتور طارق الحبيب ولا يدعو على زمن لم يكن لهم قرار باختيار صعوباته ومعوقاته.