-A +A
وفاء الرشيد
نعيش في السعودية إقبالاً منقطع النظير على الفلسفة، تعددت الجمعيات والنوادي والمجلات، وكثرت المحاضرات والندوات المتخصصة في الفلسفة، بل أصبحت هذه المادة لأول مرة تدرس في نظامنا التربوي.

ليس هذا الهوس بالفلسفة غريباً ولا مبهماً.. فمن الطبيعي أن يهتم شبابنا بالسؤال الفلسفي، ويقبل على قراءة كتب الفلاسفة الذين قال نيتشه إنهم «أطباء البشرية».


بيد أن الفلسفة لها جوانب ثلاثة لا بد من التمييز بينها:

فهي من جهة تفكير حر ونقدي يحمل على مراجعة المسلمات السائدة والأفكار الجاهزة، فتدرب الإنسان على الانفتاح وقبول الرأي الآخر، وتوطنه على التسامح والروية والرزانة.

لقد أطلق الفلاسفة على هذا النهج عبارات كثيرة من قبيل التهكم لدى سقراط، والشك لدى ديكارت، والتفلسف بالمطرقة لدى نيتشه، والتفكيك لدى هايدغر.

لكن الفلسفة هي من جهة أخرى، منهج للتوضيح والتفسير وإبراز الحقائق الخفية عن طريق الحوار الثري الناجع والاستدلال البرهاني الدقيق.. ذلك مضمون منهجية التوليد لدى سقراط، الذي كان يقول عن نفسه إنه مثل والدته القابلة، يولد الأفكار من خلال التداول الجدلي والنقاش العمومي حتى يكتشف محاوره الحقيقة بنفسه.. المشكل دوما هو مشكل منهج وليس التمايز الفطري في القدرات المعرفية، بل إن ديكارت نفسه يقول، إن العقل هو أعدل شيء قسمة بين الناس..

الفلسفة من وجه ثالث موقف شجاع وإستراتيجية جريئة للتعبير عن تطلعات الناس في العيش الكريم والسلام الاجتماعي والرفاهية الشخصية، ولذا فهي تصطدم دوماً بدعاة التعصب والانغلاق والتسلط.. ذلك هو جوهر قول كانت الشهير في تعريفه التنوير بأنه استخدام العقل بشجاعة دون وجل أو خوف.

من الواضح أن الشغف الجارف بالفلسفة لدى شبابنا ينبع من هذه الاعتبارات الثلاثة.. فهو يميل إلى النقد والجدل، وينزع إلى التحليل والبرهان، ويتطلع إلى مسؤولية المشاركة الإيجابية الفاعلة في الحركية المجتمعية الحية للبلاد التي تعيش في أيامنا أهم مراحل الإصلاح والانفتاح في مختلف مستوياته.

لا تنتعش الفلسفة إلا في المساحات المفتوحة ومع الحريات المتاحة، ولذا فإن الإقبال العارم على الفلسفة يعكس الأجواء الصحية الجديدة في البلاد.

لكن نلاحظ مع الأسف خطأين شائعين في التعامل مع الفلسفة لدى شبابنا:

فبعضهم ينطلق في نظرته للفلسفة من العقلية الجامدة التلقينية التي لا ترى في الفلسفة سوى نصوص للحفظ وعبارات تجتر وتكرر دون وعي أو نقد؛ ولذا يستبدل أسماء تراثية ومرجعيات تقليدية معروفة بأسماء فلاسفة لا يعرف عنهم إلا آراء سطحية منتزعة من سياقها ومفصولة عن إطارها النظري.

والبعض الآخر يبحث في الفلسفة عن التمرد الأعمى على ثقافة المجتمع وقيمه، وكأنها ترادف الإلحاد ونبذ التقاليد والاغتراب أو الاستلاب الثقافي. ليس التمرد مظهراً للحرية في مفهومها الصحيح، بل هو موقف متعصب غير عقلاني وإن كان يظهر في مظهر النقد والتفكيك.

وخلاصة القول، إن الفلاسفة الكبار كلهم كانوا أبناء مجتمعاتهم وسياقاتهم الثقافية، وإن تسلحوا بسلاح النقد والتنوير.