-A +A
عبدالله فيصل آل ربح
تُعرف مراكز الأبحاث الفكرية والاستراتيجية (Think tank) بأنها مؤسسات بحثية غير حكومية تضم مجموعة من الخبراء الذين يقومون بدراسة قضايا متعلقة بالشؤون السياسية، الاقتصادية، العسكرية، الأمنية، والاجتماعية من أجل تقديم رؤى استراتيجية واستشارات تخدم صانع القرار في الجهات المعنية بالمواضيع المُتناولة. وتختلف هذه المؤسسات عن الهيئات الاستشارية الحكومية بكونها تمارس عملها وتنشر إنتاجها بصفة ذات طابع فكري وليس رسميا؛ فهذه المؤسسات لا تمثل وجهة النظر الرسمية للدولة التي تتخذها مقرًا لها. وبالنسبة لمصادر تمويل هذه المؤسسات، فإنها في الغالب تعتمد على الأوقاف التي تمثل مصدر الدخل الرئيسي للمصروفات الأساسية، يضاف لذلك عوائد العقود الاستشارية، مبيعات التقارير، والتبرعات من الأفراد والمؤسسات.

بدأ استخدام مصطلح الـ Think tank خلال فترة الحرب العالمية الثانية للدلالة على المؤسسات التي تناقش الخطط والاستراتيجيات خارج الإطار الرسمي للحكومة. ومع مرور الزمن تطورت هذه المؤسسات لتشكل قطاعا قائما بحد ذاته في الدول الصناعية الكبرى، وذلك بهدف المساهمة في بناء رؤى واضحة في المجالات السياسية، الاقتصادية، والأمنية. ويرجع اهتمام هذه الدول بتطوير هذه المراكز إلى آلية اتخاذ القرار فيها، فالدول التي يرتبط اقتصادها وأمنها بدول أخرى تفضّل تنويع مصادر المعلومة والتحليل من أجل توفير رؤية أوسع لصانع القرار. كذلك فإن وجود الباحث خارج الإطار الرسمي يمنحه مساحة أوسع في البحث وتقديم الرأي بعيدا عن حسابات التسلسل الهرمي في المؤسسات الحكومية.


تعتبر واشنطن العاصمة المقر لأبرز تلك المؤسسات في العالم من حيث الكم والكيف. وبجولة سريعة على شارع ماساتشوستس في العاصمة، سيجد الزائر أن مراكز الأبحاث هي القطاع المهيمن على امتداد الشارع القريب من البيت الأبيض ومقر الكونغرس. هذا الموقع يعطي نوعا من الحميمية في العلاقة بين المكان والمشتغلين بالشأن الاستراتيجي، كون كثير من الباحثين المنتمين لهذه المراكز هم في الأساس:

-1 أساتذة جامعيون في جامعات واشنطن الكبرى (جورج تاون، جورج واشنطن، جورج ميسن، الجامعة الأمريكية في واشنطن).

-2 صحفيون مخضرمون سبق لهم تناول ملفات مهمة.

-3 مسؤولون ودبلوماسيون سابقون في الحكومة الأمريكية.

-4 مسؤولون ودبلوماسيون سابقون في حكومات دول أخرى، قدِموا بوصفهم خبراء في شؤون دولهم أو مناطقهم الجغرافية.

هذه النوعية من الشخصيات تضفي شرعية على إنتاج مراكز الأبحاث كون الباحثين أشخاصا لهم تأهيل علمي قوي وذوي خبرة عملية تمكنهم من استخدام علاقاتهم الشخصية للحصول على معلومات قيمة تخدم البحث.

ملامح هذه المؤسسات:

تتميز كل مؤسسة من تلك المؤسسات بتركيزها على نطاق محدد، أي أنها تكون متخصصة في موضوع محدد أو منطقة معينة. هذا التخصص يعطي المؤسسة ميزة «الخبرة التخصصية» كونها تُعرف بأن هذا الموضوع أو تلك المنطقة هو مجالها الرئيسي الذي يقوم عليها عملها. فعلى سبيل المثال: معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط، معهد دول الخليج العربي بواشنطن، معهد الشرق الأوسط بواشنطن. ولكن هذا لا يمنع من وجود مؤسسات بحثية متنوعة الاهتمام، ويكون في كل منها عدة أقسام أو برامج متخصصة بحسب الموضوع أو المنطقة. بمعنى أنها تكون مجموعة مراكز فرعية تحت مظلة مؤسسة واحدة ذات سياسة موحدة ومقر موحد. على سبيل المثال: مركز كارنيجي للسلام، ومركز الأطلسي.

تهدف هذه المؤسسات إلى القيام بأبحاث تجمع بين العمل المعرفي (البحثي) والتأثير الإعلامي. فاللغة التي تكتب بها المقالات والتقارير تكون عميقة بشكل مقارب للبحث العلمي، وميسّرة بشكل مقارب للعمل الصحفي. لذلك يحتاج الباحث المنتمي لهذه المؤسسات لوقت حتى يتمكن من الموازنة بين الاثنين.

تقوم المؤسسات بإجراء دراسات ميدانية تتخطى في اهتمامها النقاش النظري. فالأرقام والإحصاءات والمقابلات مع الشخصيات المؤثرة جزء لا يتجزأ من عمل هذه المراكز. لذلك، فإن هذه المؤسسات تروج لنفسها بأن هدفها يكمن في إطلاع الحكومة والمواطن على كيفية تحسين الأداء العام في القطاعات المعنية بهذه الأبحاث.

لا يقتصر إنتاج هذه المؤسسات على الأبحاث والمقالات المنشورة على مواقعها الإلكترونية، وإنما تقوم ببعض الفعاليات من مؤتمرات وورش عمل ومحاضرات بعضها مفتوح للعامة وبعضها مقتصر على دعوات خاصة.

في المحصلة، يمكن النظر إلى هذه المؤسسات باعتبارها المؤثر الأعلى في السياسة الغربية (والأمريكية بشكل خاص) بعد المؤسسات الرسمية.

كيفية التأثير:

تعمل هذه المؤسسات على ردم الفجوة بين المعلومة وصانع القرار (في الحكومة أو الشركات الكبرى) من خلال إنتاج أبحاث مواكبة للأحداث أولا بأول مما يوفر لصانع القرار والإعلام مادة تحليلية للحدث. بمعنى أن المتلقي -مهما كان مستوى أهميته في صنع القرار- سيكون مطلعا على هذه الأبحاث التي تنشر بشكل متزامن مع الأحداث الراهنة، مما يجعله متلقيّا لمشورة باحثي تلك المراكز، وإن لم يطلبها. وتلك هي الخطوة الأولى في تأثير المؤسسات البحثية على صانع القرار.

يضاف إلى ذلك كون الصحافة وبقية وسائل الإعلام بحاجة إلى تناول مواد حية لها علاقة بالأحداث، وليس ثمة مواد أكثر دسومة من تحليل الأحداث وفق أسلوب علمي ومنهج بحثي يفسر الحدث بشكل يبدو حياديا. وهذه هي الخطوة التالية، إذ تتحول المواد التي تنشرها مراكز الأبحاث إلى «قصص إعلامية» تقود «خطابًا ممنهجًا» يصعب التغاضي عنه من قبل الجماهير التي بدورها ستشكل عامل ضغط على صانع القرار وستحاسبه على قراراته بناء على فهمها للحدث. هذا الفهم الجماهيري ناتج بالطبع من الخطاب الإعلامي الممنهج الذي بُني أساسا على الأبحاث والتقارير الصادرة من تلك المراكز.

غالبا ما يتبع نشر تلك الدراسات مقابلات إعلامية وندوات تخصصية يطلّ فيها الباحثون على الجماهير ليقوموا بتوضيح بعض المفردات التي لم يتطرقوا لها بشكل كافٍ في البحث أو التقرير. هذا الظهور الإعلامي لشخصيات لها تاريخها الأكاديمي أو المهني يزيد من مصداقية البحث ويساهم في بناء السردية التي طرحها البحث/‏التقرير وتبنّاها الإعلام. تساهم هذه الإطلالات في تحفيز الجماهير لمناقشة القضية وطرح أسئلتهم على الباحث والاستماع مباشرة للحلول المقترحة من قبل الباحث أو من يشاركه في المقابلة أو الندوة.

يتضح مسار عمل هذه المؤسسات الذي يبدأ بنشر الأوراق البحثية على هيئة مقالات أو تقارير، ثم يتم تلقفها غبر وسائل الإعلام المتنوعة، لينتهي الأمر بإقامة فعاليات تجذب بدورها الإعلام بشكل جديد. يكون ناتج هذه العملية خطابٌ مكتمل الأركان يشكل رأيا موازيا لوجهة نظر المسؤولين الرسميين.

ثمة الكثير من الأمثلة الحية على هذه العملية، ومن أبرزها الأزمة الروسية-الأوكرانية، والتي نشرت حولها المراكز البحثية مئات المواد قبيل وأثناء الأزمة. وعلى سبيل المثال، نشر مركز الأطلسي في ٢٢ أكتوبر الماضي تقريرا بحثيا حول العقوبات العالمية (أي الأمريكية) على دول بعينها، وكانت روسيا أبرز الدول التي تناولها التقرير، وجاءت الأزمة مع أوكرانيا على رأس تلك الأسباب. وبعملية بحث بسيطة على محركات البحث سنجد العديد من المواد التي شكلت مادة دسمة للإعلام الأمريكي والغربي بشكل عام لبناء رأي عام عالمي حول الأزمة الروسية-الأوكرانية.

نستطيع تطبيق هذا المثال على ملفات ساخنة في منطقة الشرق الأوسط مثل: الملف النووي الإيراني، الأزمة السورية، جماعات التطرف، وغيرها من الموضوعات التي تتم دراستها في تلك المؤسسات بتركيز يوازي -ويفوق في كثير من الأحيان- تركيز وجهود المؤسسات الرسمية في الدول الغربية. وعليه، ليس مستغربا الدور المحوري الذي تلعبه تلك المؤسسات في رسم السياسة الخارجية للدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.

يجتهد الباحثون في تلك المؤسسات للعب دور مؤثر في السياسة الأمريكية بهدف الوصول إلى مراكز رسمية في الحكومة الأمريكية أو الشركات الكبرى. وتاريخ البيت الأبيض حافل باستقطاب الباحثين من تلك المؤسسات ليتسنموا مناصب قيادية في الحكومة الفيدرالية. وبنظرة سريعة على إدارة الرئيس بايدن، نجد أن وزير خارجيته أنتوني بلينكن قد انتقل للتو من منصبه كمدير مركز بن بايدن للدبلوماسية العامة بجامعة بنسلفانيا، ووزيرة المالية جانيت يلين انتقلت لمنصبها الجديد بعد أن كانت كبيرة الباحثين الاقتصاديين بمعهد بروكينغز، ووزير شؤون المحاربين القدامى دينز ماكدونوف انتقل من عمله باحثا في معهد كارنيجي للسلام. وقد نشر موقع ثنك تانك ووتش قائمة بـ ١١٤ مسؤولا رفيع المستوى في إدارة بايدن كلهم قد انتقلوا من المؤسسات البحثية «مباشرة» للعمل مع الإدارة الأمريكية الجديدة. وإدارة بايدن ليست بدعا من القول، فالإدارات السابقة كانت تفعل الشيء نفسه.

أما بالنسبة للمسؤولين السابقين في إدارة الرئيس ترمب، فقد انتقل عدد كبير منهم للعمل كباحثين في المؤسسات البحثية في واشنطن، وعلى رأسهم نائب الرئيس السابق مايك بينس الذي انتقل للعمل باحثا في مؤسسة هيريتج، ووزير الخارجية السابق مايك بومبيو الذي انتقل للعمل في معهد هندسون حيث رافقه مساعده لشؤون كوريا الشمالية أليكس وونغ وكبير مفاوضي الحد من التسلح مارشال بيلينجسلي. والقائمة تطول باستقطاب المؤسسات البحثية للمسؤولين السابقين في الإدارات الأمريكية. ويتعدى نطاق الاستقطاب الداخل الأمريكي إلى المسؤولين السابقين في الدول الأخرى، حتى العربية منها، ومن أبرز الأمثلة الحالية وزير الخارجية الأردني السابق مروان معشر الذي يعمل باحثا في مركز كارنيجي.

مع وجود عدد من المسؤولين الرسميين السابقين في الإدارة الأمريكية في مراكز الأبحاث، يقابلهم مجموعة من الباحثين السابقين المنتقلين للإدارة الأمريكية، نجد أن كلا من الطرفين لديه معرفة واضحة بخفايا الطرف الآخر، مما يسهل عملية التوصيات السرية وتسريب المعلومات بين الشخصيات الرسمية والباحثين، حيث إن عددًا لا بأس به منهم قد تنقل بين المنصبين الرسمي والبحثي.

تتسابق اللوبيات على كسب ود الباحثين الواعدين الذين يُنتظر تعيينهم في مناصب رفيعة المستوى في الحكومات المستقبلية، وكذلك المسؤولين السابقين الذين ما زال لهم تأثيرهم في التوصيات. وقد برع كل من اللوبي الإسرائيلي والإيراني في بناء علاقات استراتيجية في أروقة المراكز البحثية في واشنطن، حتى سيطروا على بعض تلك المراكز. على سبيل المثال يسيطر اللوبي الإسرائيلي على معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، فيما يحظى اللوبي الإيراني بنفوذ قوي داخل معهد كوينسي.

السبل الناجعة للتعامل مع هذه المؤسسات:

من الأخطاء الكبرى التي تمارسها سفارات الدول في واشنطن أن تقوم بإنشاء مراكز بحثية موالية لها، فعندما يتم تأسيس مركز ممول من دولة أجنبية، حتى لو كان ذلك غير معلن بشكل رسمي، فإن المركز يولد ميتا لأنه سينظر له بوصفه وكيلا دعائيا وليس مركزا بحثيا. بالتالي، سيكون من الصعب على مثل هذا المركز أن يستقطب باحثين ذوي قيمة معرفية أو علاقات رسمية. كذلك، فإن المركز يفترض ألا يكون ذا صبغة فاقعة في ميله لدعم دولة أو تحالف سياسي بعينه. ولكن يبقى هذا الخيار على علاته الكثيرة أقل ضررا من التعامل مع شركات الدعاية التي تعطي انطباعا سلبيا عن قضايا الدول التي تحاول إيصالها للمتلقي الأمريكي.

إن أفضل خيار يمكن تبنيه يكون عن طريق تشجيع الكفاءات البحثية بشكل فردي على الانضمام لتلك المؤسسات والعمل من داخلها من أجل تقديم بحوث علمية رصينة توضح حقيقة قضايا بلدانهم. ولو أخذنا المملكة العربية السعودية على سبيل المثال، لوجدنا أن ثمة عددا كبيرا من خريجي برامج الابتعاث في تخصصات ذات علاقة بالبحوث الاستراتيجية، ويمكنهم أن يكوّنوا قوة ناعمة في الداخل الأمريكي عن طريق التحاقهم بتلك المراكز سواءً كمتدربين أو باحثين. إن الاستثمار في دعم هذه الكفاءات الشابة ماديا بتوفير منح على غرار برامج الابتعاث ليتمكنوا من الإقامة قرب تلك المراكز سيفتح فرصة لتلك الطاقات الشابة لصقل مواهبهم وبناء قدرات وطنية مفيدة سواء في واشنطن أو عندما يعودون لأرض الوطن.