لماذا بدا مألوفاً ما حصل في سيرلانكا مؤخراً من انهيار للحكومة وثورة شعبية خلعت النظام الحاكم؟ السبب لأنه بالفعل بات نمطاً سائداً عالمياً، ويمكن توقّعه مسبقاً رغم زوال المحرك السياسي العقائدي للثورات والانقلابات منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، والثورات العربية قبل عقد هي جزء من هذا النمط السائد ومجرد حلقة في سلسلة مماثلة من الثورات الجماعية التي بدأت منذ تسعينات القرن الماضي في دول ما كانت تسمى بالنمور الآسيوية ثم دول وسط وشرق أوروبا ودول أمريكا اللاتينية ثم أمريكا وأوروبا الغربية، والسبب هو النظرية الاقتصادية الكارثية التي جرى فرضها على العالم عبر المؤسسات الاستشارية والاقتصادية والنقدية الدولية؛ ولذا حتى من كان قائماً على فرضها من المنظرين الأكاديميين والمسؤولين البيروقراطيين انقلب ضدها كالاقتصادي الأمريكي البروفيسور. Joseph Stiglitz الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد الذي كان كبير اقتصاديي البنك الدولي ونائباً لرئيسه، ورئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس كلينتون، وهو كمسؤول فرض تلك النظرية الاقتصادية عالمياً اعترف بمقال بعد الثورات العربية بمسؤولية هذه النظرية الاقتصادية عن التسبب بالثورات العربية «The Tunisian Catalyst, Project Syndicate. Feb 4, 2011» وبقية سلاسل الانهيارات والثورات التي حصلت في العالم خلال العقود الماضية، وهذا ما جعله ينقلب لمعارض ناقد لهذه النظرية، فهذه النظرية الاقتصادية الكارثية انقلبت على النظرية الاقتصادية التقليدية للاقتصاد التي كانت تقول إن هدف الأنظمة الاقتصادية هو منح الاستقرار لنظام الدولة وتكريس رفاه الشعب وتقديم خدمة ومنفعة للمجتمع، بينما النظرية الاقتصادية الجديدة الكارثية تقول إن هدف الأنظمة الاقتصادية هو تعظيم أرباح أصحاب رؤوس الأموال ولو كان ذلك على حساب استقرار أنظمة الدول ورفاه الشعوب، وهي تجبر الدول تحت ضغط القروض وخدمتها الربوية المستحيلة السداد على تحويل الجزء الأكبر من دخل وميزانية البلد من الخدمات العامة إلى خدمة الديون الخارجية، وتجعل مقدرات الدول كلعبة قمار في يد المضاربين الأجانب تنفيذاً لاشتراطات رفع أي دعم أو قيود حمائية على اقتصاد البلد لتتركه خاضعاً بالكامل لقوى وأهواء طمع وجشع أصحاب رؤوس الأموال، وبالطبع تلك المؤسسات الدولية تمنح تقديرات عالية وتمتدح أداء ومؤشرات الدول في تنفيذ سياساتها الاقتصادية المناقضة لمصالح الشعوب لأنه ليس قائماً على مقاييس استفادة المواطنين من الدورة الاقتصادية إنما فقط قدر ما تتخلى الدولة عن القيام بواجباتها ومسؤولياتها تجاه جودة حياة المواطنين وتتحول لمجرد حارس للألاعيب المالية لرأس المال غير المنتج وغير المفيد للشعب لأنه يتولد عن الأدوات المالية والعمليات البنكية المتلاعبة وتداولات أسواق المال والبورصات دون تقديم أي منتج أو خدمة أو منفعة حقيقية للمجتمعات، وهذا سبب دورات انتفاخ وانهيار فقاعاته كما حصل في أمريكا من انهيار اقتصادي عام 2008، وأبرز شاهد آخر على كارثية تطبيق هذه النظرية الاقتصادية هو الاقتصادي الأمريكي «جون بيركينز» مؤلف الكتاب الأكثر مبيعاً «Confessions of an Economic Hit Man -اعترافات سفاح اقتصادي» 2004 عن دوره في فرض تلك النظرية الاقتصادية على بقية العالم، ثم كتابه الجديد «The New Confessions of an Economic Hit Man- الاعترافات الجديدة لسفاح اقتصادي» عن وصول الآثار المدمرة لتلك النظرية الاقتصادية لدول الغرب وأمريكا وتسببها بالانهيارات الاقتصادية وحركات الاحتجاجات التي استمرت لأشهر ووصلت لتهديد استقرار النظام الديمقراطي في أمريكا وأوروبا، وواضح من مسمى كتابه ماهية تقيمه لآثار ما ساهم في فرضه على الدول من سياسات اقتصادية، و«بيركينز» عمل كبيراً للاقتصاديين في عدد من مؤسسات الاستشارات الاقتصادية الدولية التي تصوغ الخطط الاقتصادية للدول ومستشاراً للبنك الدولي ولمؤسسة النقد الدولي وكان صديقاً شخصياً لعدد من الزعماء والرؤساء، ثم حصلت له يقظة ضمير بعد رؤية العواقب الكارثية لتلك النظرية الاقتصادية وأهمية اعترافاته أنه كشف تورط المؤسسات الاستشارية التي تفرض تلك النظرية الاقتصادية بأساليب التضليل والخداع والتزوير والفساد والتهديد والترهيب لإجبار الحكومات على تطبيقها، واعترف بخداع تلك المؤسسات الاستشارية الاقتصادية للحكومات بدراسات وتوقعات اقتصادية كاذبة مفبركة ومبالغ فيها بشكل متعمد لترغيب الحكومات في أخذ المزيد من القروض وصرفها في مشاريع كبرى لا تفيد المواطن بشيء إنما الهدف منها وضع السيولة المالية التي اقترضتها الحكومات في جيوب ذات الجهات المقرضة عبر تولي شركائها وحلفائها تنفيذ تلك المشاريع لتترك الشعوب وأجيالها المستقبلية تعاني من تحويل حوالى نصف دخلها القومي لخدمة ربا تلك الديون الخارجية وتحتاج باستمرار للمزيد من الاقتراض فقط لسداد خدمة الديون المتراكمة بالإضافة لإجبارها على بيع مقدّراتها بأرخص الأسعار كتعويض عن عجزها عن سداد القروض، وهي استراتيجية تبنتها حتى دول مثل الصين وصارت تقرض الدول قروضاً مستحيلة السداد لتدفعها تلك الحكومات إلى الشركات الصينية مقابل المشاريع الكبرى التي تقوم بها ثم عندما لا تعود قادرة على تسديد ديونها تقوم الصين بالاستحواذ على أصولها ومقدراتها كتعويض فتجد الشعوب نفسها وقد سحبت منها كل الخدمات الأساسية الحكومية ورفع كل أنواع الدعم عنها، وبات كل الاقتصاد مسخّراً لأهواء وجشع أصحاب رؤوس المال ويتحمّل المواطنون أعباء سداد القروض المستحيلة لأجيال بعد فقدهم مقدّراتهم العامة حتى يصل الشعب حرفياً لدرجة عدم القدرة على شراء رغيف يومه ولا ملء سيارته بالبنزين ولا الحصول على كهرباء لبيته أو علاج طبي، فيشعر الشعب أنه ما عاد لديه شيء يخاف خسارته أو يعيش لأجله، وعندها تحدث الثورة، والتبعات الاقتصادية لوباء كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا ساهمت في تعجيل دورة ظهور عواقب تطبيق تلك السياسات، لكنها ليست سببها الأساسي.