تمضي الحرب الروسية ـ الأوكرانية فصولاً دون أن يبدو لها نهاية قريبة، ففي أحدث فصولها تعرضت شبه جزيرة القرم إلى قصف صاروخي وهجوم بالطائرات المسيرة استهدف مقر قيادة الأسطول الروسي. هذا التطور ينقلنا إلى مستوى آخر من الصراع. في بداية هذه الحرب أراد الجانب الروسي أن تكون حرباً سريعة وخاطفة تستطيع من خلالها موسكو فرض إرادتها على كييف، لذلك فقد تقدمت القوات الروسية باتجاه العاصمة الأوكرانية، لكن المفاجأة كانت كبيرة عندما استطاعت القوات الأوكرانية مهاجمة خطوط الإمداد وتقطيع أوصال القوات الروسية ومهاجمتها بفعالية كبيرة، هذا التطور كان حاسماً، ليس في رد القوات الغازية وحسب، ولكن في تغيير الموقف الغربي، وخصوصاً الأمريكي، حيث زاد الغرب من دعمه العسكري، ولكن هذا الدعم لم يكن كافياً ليمنع تقدم القوات الروسية إلى إقليم دنباس، حيث سارعت هذه القوات إلى تغيير خططها بحيث هاجمت الإقليم وحاولت الوصل ما بين شبه جزيرة القرم والإقليم الانفصالي عبر السيطرة على ميناء ماريوبول. المقاومة الأوكرانية كانت عنيفة ولكن معايير التفوق العسكري انتصرت وتقدمت قوات موسكو ببطء ولكن بثبات. سقوط ميناء ماريوبول وتحويل بحر آزوف إلى بحيرة روسية كان الإيذان بالانتقال للمرحلة الثالثة؛ حيث سعت القوات الروسية للسيطرة على شرقي أوكرانيا حتى نهر دنيبرو، عبر الزحف غرباً انطلاقاً من إقليم دنباس والزحف شمالاً انطلاقاً من خرسون حتى تمت السيطرة على مفاعل زباروجيا النووي. وهنا كان التدخل الغربي الحازم حيث دخلت أسلحة غربية متفوقة تقنياً على الأسلحة الروسية، منها صواريخ هاي مارس متوسطة المدى، مدافع هاوتزر وصواريخ ستنغر المضادة للطائرات الحوامة وكذلك صواريخ ماجلان المضادة للدروع، وهذا ما ألحق خسائر فادحة بالقوات الروسية وأدى إلى إيقاف تقدمها، بل إنها في بعض المواقع تقهقرت إلى الخلف، وحتى اليوم لم تستطع استكمال سيطرتها على شرق أوكرانيا، في نفس الوقت نقلت القوات الأوكرانية -بدعم غربي- الحرب إلى مستوى جديد عبر مهاجمة أماكن سيطرة القوات الروسية. على امتداد الأيام القليلة الماضية استطاعت القوات الأوكرانية قصف مدن وقواعد في شبه جزيرة القرم، اللافت في تلك الهجمات أن أقرب نقطة تستطيع من خلالها القوات الأوكرانية توجيه رشقات صاروخية تبعد حوالي 300 كم، وهذا يعني أن أوكرانيا حصلت على أسلحة جديدة غير معلن عنها، وأن هناك محاولة مستميتة لزيادة مصاعب القوات الروسية. لقد نجحت روسيا باحتلال أجزاء واسعة من أوكرانيا كما نجحت بالتقدم في زحفها لاحتلال أوكرانيا، حتى لو كان هذا التقدم بطيئاً وبتكلفة باهظة. روسيا تتفوق بشكل كبير على القوات الأوكرانية عدة وعديداً، لكن الغرب متفوق تقنياً على الجانب الروسي، وهذا ما عدّل الكفة نسبياً لصالح كييف. ولكن هناك عامل آخر ساهم في الصمود الأوكراني وهو العامل البشري وإرادة القتال لدى الأوكرانيين. الخسائر الأوكرانية فادحة سواء بالأرواح أو اقتصادياً أو خسارة الأرض التي من المستبعد أن تعود مرة أخرى للسيادة الأوكرانية. ولعل نموذج حرب الشتاء بين الاتحاد السوفيتي وفنلندا هو الأقرب للتحقق في أوكرانيا، فقد تكبدت القوات السوفيتية خسائر فادحة ولكن السلام لم يتحقق إلا بعد اقتطاع جزء من الأراضي الفنلندية لصالح الاتحاد السوفيتي. حتى الآن تتحقق الاستراتيجية الأمريكية عبر حرب استنزاف تنهك القوات الروسية وتحقق الأهداف الغربية باحتواء الخطر الروسي حتى لو كان الثمن المدفوع أوكرانياً باهظاً للغاية.