يقول أبو حامد الغزالي: «من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج»، ولأن أهل الغفوة فاسدو المزاج فقد حاربوا الموسيقى والغناء، وقصروا السماح بها على الأناشيد الدينية والحماسية. واتبعوا في ذلك أقوال المتأخرين ونسبوا بعضها إلى الصحابة وخلطوا على الناس أمرهم وأفتوا بحرمة الغناء بعد أن أخرجوا النصوص القرآنية مِن نصوصها لتخدم رأيهم الذي يخالف ما كان عليه السلف الأول من عمل. وللأسف الشديد ما زالت هذه الأقوال الشاذة تعيش بين الجيل الذي تغذى وشرب من نهل أهل الغفوة.
ولقد عرف العرب الموسيقى والغناء والآلات الموسيقية من قديم الزمان، وذلك ثابت من الصور الجدارية القديمة والمنحوتة منذ آلاف السنين قبل ظهور الإسلام، وهي تدل على الرقي والحضارة التي وصل إليها أهل الجزيرة العربية؛ لأن الموسيقى تتطور فقط في المجتمعات التي تجاوزت حاجاتها الأساسية، وبلغت مرحلة معينة من الرخاء والاستقرار كما قال ابن خلدون. وفي العصر الذي سبق الإسلام عرف العرب «الحداء»، ومنه أتى قول الشاعر: يا حادي العيس عرّج كي نودّعهم... يا حادي العيس في ترحالك الأجلُ. كما عرف «العرب أيضاً الغناء الحربي، فأنشد المحاربون لحناً مشتركاً رافقته زغاريد النساء، وقرعت معه الطبول والدفوف. وعرفوا غناء «التغبير»، وفيه استذكروا أمجاد الماضي وأحداث الزمن الغابر. ويذكر ابن رشيق في كتاب «العمدة» نوعاً آخر من الغناء يسمى «الهزج»، وهو لحن بسيط يستخدم فيه الطبل والمزمار، وقد يرافقه الرقص. إضافة إلى التهليلات الدينية أثناء الطواف والرقص حول الكعبة، وأثناء تقديم الأضاحي للآلهة».
وفي العصر النبوي كان للغناء نصيب في الحياة اليومية؛ فغنت الجواري في بيوت المهاجرين والأنصار. كانت «سيرين، أخت ماريا القبطية، أكثر المغنيات شهرة في تلك الفترة، وتتلمذت على يدها عزة والميلاء وجميلة وغيرهن. غير أن النهضة الموسيقية بدأت مع انتقال مركز الخلافة الإسلامية لدمشق». ففي قصور الأمويين تلاقت الموسيقى العربية والفارسية والإغريقية، وتلاقحت فنون الغناء المختلفة تحت رعاية مباشرة من الخلفاء، باستثناء يزيد الأول وعبدالملك وعمر الثاني. ظهرت تباشير تلك النهضة في كتابات يونس الكاتب، الذي كان أول من درس الموسيقى والألحان علمياً في كتابيه النغم والقيان. وقد أسسا للثورة الموسيقية اللاحقة، التي قادها إبراهيم الموصلي، الموسيقار والمغني المقرب من البلاط العباسي، ومن بعده ابنه إسحاق في بغداد. ولعل الوصف الأدق لما كانت تعنيه الموسيقى في ذلك الوقت، هو قول الجاحظ: «الموسيقى كانت بنظر الفرس أدباً وبنظر الروم فلسفة، أما بنظر العرب فأصبحت علماً».
تحريم الغناء والموسيقى اجتهاد إنساني ليس له دليل صريح من القرآن. وتحريم هذا الفن والمتعة يخالف الفطرة البشرية والطبيعة التي خلقها الخالق المفعمة بالموسيقى. لكن أهل الغفوة أرادوا أجبار الناس على رأيهم الذي فرضوه على المجتمع بهدف التحكم في المجتمع والسيطرة وإبعاد الأنسنة عن المجتمع والإنتاج والحياة الطبيعية وتحويل الشباب للقتال والزج بهم في الفتن. وعمل أهل الغفوة على تصوير حياة السلف بأنها للقتال خلاف الحقيقة. يقول الدكتور طه حسين في كتابه حديث الأربعاء «إذا أردت أن تتخذ من هذا العصر (العباسي) صورة صادقة، تحكم بها عليه حكمًا صادقًا؛ فأنت مضطر إلى أن ترجع إلى هؤلاء الشعراء والكتاب، أكثر من رجوعك إلى هؤلاء الفقهاء والمتكلمين والرواة؛ لأن الشعراء والكتاب يمثلون الجماعة حقًّا، ويعبرون عن أهوائها وميولها، ويصفون ما تضطرب فيه من ضروب الحياة، أفتظن أن شاعرًا كأبي نواس يبلغ ما بلغ من الشهرة حتى يفتن به الناس في بغداد، وغيرها من مدن العراق، بل في الشأم ومصر حين ذهب إلى الشأم ومصر، فيحفظون شعره ويتناشدونه، ثم يضيفون إليه كل ما أعجبهم من شعر فيه هزل ومجون وليس له قائل معروف، ثم لا يكتفون بذلك، بل يروون عنه الروايات، وينتحلون له القصص، ويتحدثون عنه في اللعب واللهو بالأعاجيب، أفتظن أن الناس يتخذون أبا نواس مثالًا للذة ونعيم الحياة، فيكلفون به هذا الكلف إذا لم يكن أبو نواس لسانهم الصادق، ومرآتهم الصافية؟ كلا! ليس من شك في أن صلة حقيقية قوية كانت تصل بين هؤلاء الشعراء، وبين طبقات الناس المختلفة، وتجعل هؤلاء الشعراء تراجمة صادقين، لما يخطر لهذه الطبقات من خواطر، وما يضطرب في نفوسها من عواطف، في حين كان الفقهاء والمتكلمون ورواة الحديث والأخبار عاكفين على الفقه يستنبطونه، وعلى الكلام يمحصونه، وعلى الحديث يروونه، وعلى الأخبار يتلقطونها ويذيعونها بين الناس، وكانوا في هذا لا ينطقون بلسان أحد، ولا يعبرون عن رأي أحد، ولا يمثلون إلا العلم الذي يعنون به، ويعكفون عليه».
يقول الأمير محمد بن سلمان: «نحن نرجع إلى تعاليم الإسلام الحقيقية، التي عاش بها الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الأربعة الراشدون، حيث كانت مجتمعاتهم منفتحة ومسالمة، وكان عندهم مسيحيون ويهود يعيشون في تلك المجتمعات، وأرشدتنا هذه التعاليم إلى أن نحترم جميع الثقافات والديانات بغض النظر عنها. وهذه التعاليم كانت مثالية، ونحن راجعون إلى الجذور، إلى الشيء الحقيقي. إن ما حدث هو أن المتطرفين اختطفوا الدين الإسلامي وحرفوه، بحسب مصالحهم، حيث إنهم يحاولون جعل الناس يرون الإسلام على طريقتهم، والمشكلة هي انعدام وجود من يجادلهم ويحاربهم بجدية، وبذلك سنحت لهم الفرصة في نشر هذه الآراء المتطرفة المؤدية إلى تشكيل أكثر جماعات الإرهاب تطرفًا، في كلٍّ من العالَمين السني والشيعي».
نعم إن هذا الفكر الضال وأهله من أهل الغفوة ليس لهم علاج إلا الاستئصال، والتنبيه لخطرهم وما خلفوه من أفكار وآراء تنشر الكراهية ومحاربة الإبداع والفن والحياة.
ولقد عرف العرب الموسيقى والغناء والآلات الموسيقية من قديم الزمان، وذلك ثابت من الصور الجدارية القديمة والمنحوتة منذ آلاف السنين قبل ظهور الإسلام، وهي تدل على الرقي والحضارة التي وصل إليها أهل الجزيرة العربية؛ لأن الموسيقى تتطور فقط في المجتمعات التي تجاوزت حاجاتها الأساسية، وبلغت مرحلة معينة من الرخاء والاستقرار كما قال ابن خلدون. وفي العصر الذي سبق الإسلام عرف العرب «الحداء»، ومنه أتى قول الشاعر: يا حادي العيس عرّج كي نودّعهم... يا حادي العيس في ترحالك الأجلُ. كما عرف «العرب أيضاً الغناء الحربي، فأنشد المحاربون لحناً مشتركاً رافقته زغاريد النساء، وقرعت معه الطبول والدفوف. وعرفوا غناء «التغبير»، وفيه استذكروا أمجاد الماضي وأحداث الزمن الغابر. ويذكر ابن رشيق في كتاب «العمدة» نوعاً آخر من الغناء يسمى «الهزج»، وهو لحن بسيط يستخدم فيه الطبل والمزمار، وقد يرافقه الرقص. إضافة إلى التهليلات الدينية أثناء الطواف والرقص حول الكعبة، وأثناء تقديم الأضاحي للآلهة».
وفي العصر النبوي كان للغناء نصيب في الحياة اليومية؛ فغنت الجواري في بيوت المهاجرين والأنصار. كانت «سيرين، أخت ماريا القبطية، أكثر المغنيات شهرة في تلك الفترة، وتتلمذت على يدها عزة والميلاء وجميلة وغيرهن. غير أن النهضة الموسيقية بدأت مع انتقال مركز الخلافة الإسلامية لدمشق». ففي قصور الأمويين تلاقت الموسيقى العربية والفارسية والإغريقية، وتلاقحت فنون الغناء المختلفة تحت رعاية مباشرة من الخلفاء، باستثناء يزيد الأول وعبدالملك وعمر الثاني. ظهرت تباشير تلك النهضة في كتابات يونس الكاتب، الذي كان أول من درس الموسيقى والألحان علمياً في كتابيه النغم والقيان. وقد أسسا للثورة الموسيقية اللاحقة، التي قادها إبراهيم الموصلي، الموسيقار والمغني المقرب من البلاط العباسي، ومن بعده ابنه إسحاق في بغداد. ولعل الوصف الأدق لما كانت تعنيه الموسيقى في ذلك الوقت، هو قول الجاحظ: «الموسيقى كانت بنظر الفرس أدباً وبنظر الروم فلسفة، أما بنظر العرب فأصبحت علماً».
تحريم الغناء والموسيقى اجتهاد إنساني ليس له دليل صريح من القرآن. وتحريم هذا الفن والمتعة يخالف الفطرة البشرية والطبيعة التي خلقها الخالق المفعمة بالموسيقى. لكن أهل الغفوة أرادوا أجبار الناس على رأيهم الذي فرضوه على المجتمع بهدف التحكم في المجتمع والسيطرة وإبعاد الأنسنة عن المجتمع والإنتاج والحياة الطبيعية وتحويل الشباب للقتال والزج بهم في الفتن. وعمل أهل الغفوة على تصوير حياة السلف بأنها للقتال خلاف الحقيقة. يقول الدكتور طه حسين في كتابه حديث الأربعاء «إذا أردت أن تتخذ من هذا العصر (العباسي) صورة صادقة، تحكم بها عليه حكمًا صادقًا؛ فأنت مضطر إلى أن ترجع إلى هؤلاء الشعراء والكتاب، أكثر من رجوعك إلى هؤلاء الفقهاء والمتكلمين والرواة؛ لأن الشعراء والكتاب يمثلون الجماعة حقًّا، ويعبرون عن أهوائها وميولها، ويصفون ما تضطرب فيه من ضروب الحياة، أفتظن أن شاعرًا كأبي نواس يبلغ ما بلغ من الشهرة حتى يفتن به الناس في بغداد، وغيرها من مدن العراق، بل في الشأم ومصر حين ذهب إلى الشأم ومصر، فيحفظون شعره ويتناشدونه، ثم يضيفون إليه كل ما أعجبهم من شعر فيه هزل ومجون وليس له قائل معروف، ثم لا يكتفون بذلك، بل يروون عنه الروايات، وينتحلون له القصص، ويتحدثون عنه في اللعب واللهو بالأعاجيب، أفتظن أن الناس يتخذون أبا نواس مثالًا للذة ونعيم الحياة، فيكلفون به هذا الكلف إذا لم يكن أبو نواس لسانهم الصادق، ومرآتهم الصافية؟ كلا! ليس من شك في أن صلة حقيقية قوية كانت تصل بين هؤلاء الشعراء، وبين طبقات الناس المختلفة، وتجعل هؤلاء الشعراء تراجمة صادقين، لما يخطر لهذه الطبقات من خواطر، وما يضطرب في نفوسها من عواطف، في حين كان الفقهاء والمتكلمون ورواة الحديث والأخبار عاكفين على الفقه يستنبطونه، وعلى الكلام يمحصونه، وعلى الحديث يروونه، وعلى الأخبار يتلقطونها ويذيعونها بين الناس، وكانوا في هذا لا ينطقون بلسان أحد، ولا يعبرون عن رأي أحد، ولا يمثلون إلا العلم الذي يعنون به، ويعكفون عليه».
يقول الأمير محمد بن سلمان: «نحن نرجع إلى تعاليم الإسلام الحقيقية، التي عاش بها الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الأربعة الراشدون، حيث كانت مجتمعاتهم منفتحة ومسالمة، وكان عندهم مسيحيون ويهود يعيشون في تلك المجتمعات، وأرشدتنا هذه التعاليم إلى أن نحترم جميع الثقافات والديانات بغض النظر عنها. وهذه التعاليم كانت مثالية، ونحن راجعون إلى الجذور، إلى الشيء الحقيقي. إن ما حدث هو أن المتطرفين اختطفوا الدين الإسلامي وحرفوه، بحسب مصالحهم، حيث إنهم يحاولون جعل الناس يرون الإسلام على طريقتهم، والمشكلة هي انعدام وجود من يجادلهم ويحاربهم بجدية، وبذلك سنحت لهم الفرصة في نشر هذه الآراء المتطرفة المؤدية إلى تشكيل أكثر جماعات الإرهاب تطرفًا، في كلٍّ من العالَمين السني والشيعي».
نعم إن هذا الفكر الضال وأهله من أهل الغفوة ليس لهم علاج إلا الاستئصال، والتنبيه لخطرهم وما خلفوه من أفكار وآراء تنشر الكراهية ومحاربة الإبداع والفن والحياة.