من أهم السنن التي تمنحنا الأمل أنه مهما ساءت الأحوال فهي حتماً ستتحسن عاجلاً أم آجلاً هي سنة؛ أن لكل فعل رد فعل مضاد له يؤدي لإعادة الأمور لحال الانتظام والاتزان التلقائي، وفي حاضرنا الحالي الذي حصل فيه للأسف نكوص عالمي باتجاه تيارات الغوغائية والهمجية والرجعية واللاعقلانية المعادية للعلم والعلماء وللنظام العام وثقافة التحضر وعودة العصبيات وسيادة نظريات المؤامرة العشوائية بسبب سطحية وخواء وابتذال الثقافة العامة السائدة عالمياً، مما جعل الناس يبحثون عن معنى وغاية لحياتهم في هذه التيارات الهدامة، ومن ثم تم اختراق تيارات نظريات المؤامرة والعصبيات استخباراتياً لتسخيرها لتهدم معسكراتها بنفسها، وهي تتوهم أنها المنقذ الحامي لها كما حصل في أمريكا خلال العقد الأخير من اختراق وتلاعب استخباراتي روسي بالرأي العام الأمريكي حسب التقارير الرسمية للمخابرات الامريكية والمباحث الأمريكية، مما أدى لأخطر تهديد حقيقي لوحدة واستقرار وديمقراطية الدولة الأمريكية من داخلها، وهو يشبه ما هو حاصل بالعالم الإسلامي بالنسبة لتأثير الجماعات المتطرفة والإرهابية، وبعد أمريكا والعالم الإسلامي فالهند حالياً ثالث أبرز منطقة نشاط لتلك التيارات الهدامة، وبالعموم انتشار وباء كورونا ضاعف من هيمنة نظريات المؤامرة عالمياً مما عرقل جهود محاصرة الوباء بسبب نظريات المؤامرة التي تزعم أنه تمثيلية من قوى سرية عالمية تسعى للسيطرة على العالم، ولذا حصلت مظاهرات وأعمال شغب بالدول الديمقراطية ضد فرض الحكومات إجراءات السلامة العامة كالحجر الصحي والكمامات، وصدرت فتاوى في بلدان إسلامية عدة ضد التطعيمات الأساسية للأطفال المفروضة منذ حوالى القرن بسبب تصديق مزاعم نظريات المؤامرة عنها وأن الغاية منها إصابة المسلمين بالعقم، مما أدى لعودة وبائية لأمراض كانت قد انقرضت مثل شلل الأطفال، وهذه العواقب الخطيرة أدت لردة فعل مضادة تمثلت في مبادرات فردية من قبل صحفيين وناشطين ووكالات أنباء وصحف عالمية لتخصيص حيز خاص للتحقق من أبرز الأخبار والمعلومات والمزاعم والادعاءات والمقاطع والصور المتداولة عبر مواقع التواصل وتفنيد ما تتضمنه من زيف، وللأسف أثرها لا يزال محدوداً؛ لأن الناس لا يتحمسون لتداولها كتحمسهم لنشر الزيف؛ لأنه مثير أكثر من الحقيقة، لكن جائزة نوبل للسلام أظهرت أهمية الدور الذي تلعبه تلك المبادرات، فمنحت جائزتها لعام 2021 للصحفية والإعلامية الفلبينية «ماريا ريسا» التي كانت قد بادرت بتأسيس صفحة على فيسبوك للتحقق من صحة الأخبار المتداولة عام 2011 وتطورت بعد سنة إلى موقع كامل على الإنترنت يعمل فيه فريق من الصحفيين، وبالمقابل في الوطن العربي لم تتبنَ أي وسيلة إعلام أو صحافة أو وكالة أنباء تقديم مثل هذه الخدمة ولا تزال مقتصرة على مبادرات فردية وحسابات ومواقع فردية تعد على أصابع يد واحدة، وللأسف لا يزال المنظور المؤامراتي العشوائي غير الموضوعي مقبولاً بالإعلام والصحف، مع ملاحظة أن الذين يتربصون بحسابات الناس لتصحيح أخطائهم الإملائية والطباعية والنحوية لا يجعلون العالم أفضل؛ لأنه لا يوجد أحد سيقتل أحداً بسبب خطأ مطبعي أو إملائي او نحوي، فالناس يقتلون بعضهم على الأخطاء في المعلومات والنظريات والمزاعم المتداولة التي تستخدم للتحريض، فهناك ما هو أهم من الإملاء والنحو حالياً وهو المضمون -يستثنى من ذلك الأطباء الذي أخطاؤهم الإملائية بالفعل تقتل الناس- ومحركات البحث ومواقع التواصل الكبرى وفرت آليات للتحقق من أصل الصور والمقاطع المتداولة؛ ولذا لا عذر لأحد بتداول مقاطع وصور قد تتسبب حرفياً بجرائم قتل دون التحقق من أصلها كتداول مقاطع أو صور مع مزاعم تثير الفتنة الطائفية وما شابه وخصوصاً في منطقتا المشتعلة أصلاً بالحروب والإرهاب والطائفية وما تسمى بجرائم الشرف والهستيريا الجماعية -وهي توهم جماعي بوجود مؤثر عام غامض وخبيث وراء ظاهرة عادية مما يؤدي لاتهام ضحية ما بأنها سحرت المكان، أو أن أهل جنسية ما حقنوا الخضار بالإيدز أو بمادة تؤدي للعقم وما شابه- ومن لا يعرف كيفية التحقق من صحة ما هو متداول فيمكنه أن يستعين بمساعدة حسابات التحقق التي يديرها المتطوعون، وحتى ما تبدو معلومات عادية يمكن أن تكون على درجة عالية من الخطورة وتؤدي حتى للوفاة كما هو الحال مع تداول المزاعم الطبية غير الصحيحة ووصفات علاجية عشوائية وقد تكون منسوبة لاسم طبيب شهير ومن يتداولها لا يتحقق إن كان فعلاً هذا الطبيب قد صرح بهذا القول أم لا، ومجرد تحذير الناس المعمم من تداول الأخبار والمقاطع والصور والمزاعم لا يحدث أثراً واقعياً؛ لذا من الواجب على من يعرف طرق التقصي والتحقق من المصادر أن يتطوع ليصبح محرك التحقق من كل ما يتم تداوله في محيطه الواقعي والافتراضي حتى بجماعات الواتساب العائلية، ومجرد ظهور مثل هذه المبادرات على السطح سيساعد في إدخال منهجية التفكير الموضوعي العلمي إلى الوعي الجمعي ليصبح نمطاً سلوكياً عاماً سائداً؛ لأن العالم وصل لدرجة خطيرة من فوضى وعشوائية التشكيك في كل شيء وأحد حتى في الأطباء والعلماء والنظريات العلمية الأساسية التي كانت من المسلمات حتى بدأت موجة اللاعقلانية الغوغائية الحالية وصار الناس يشككون حتى بشكل كوكب الأرض وحركته! وحرفياً هذا المنظور المهووس بالريبة/ البارانويا والغوغائية والمستغرق بشكل مفرط بالعالم الافتراضي دفع كثيرين لفقد توازنهم الفكري والنفسي ومنهم شخصيات اعتبارية، واللوم الأكبر يقع على أهاليهم الذين لم يتداخلوا معهم لحثهم على الأقل على اعتزال المشاركة بمواقع التواصل ولو لفترة مؤقتة وربما مراجعة طبيب نفسي، وللأسف أنهم بسبب فقدهم للمنظور الموضوعي المتوازن لا يميزون بين من «يضحك لهم» ومن «يضحك عليهم» ويتابعهم للتسلي على الأمور الصادمة التي تصدر عنهم، ومن ضمن تبعات فقدهم للتوازن الفكري تداولهم معلومات ومزاعم باطلة وغوغائية لدعم مواقفهم مقابل خصومهم، وبهذا صاروا مصدر نشر وتداول إضافي لها يمنحها مصداقية تفتقر إليها بسبب مكانتهم الاعتبارية التي لم يراعوا حقها.