يحتشد عشرات الشبان اليائسين في شمال سورية أمام الكاميرا ليبرزوا بطاقات الهوية التي تثبت أن وضعهم قانوني في تركيا ومع ذلك أبعدتهم حكومتها إلى بلادهم الفقيرة المدمّرة. في الوقت نفسه تبكي عجوز في دمشق أعيتها الحيل لتحصيل خبز تطعم به أحفادها الأيتام.
مشهدان، بين مشاهد يومية كثيرة، يختصران حالة الذهول والألم وانسداد الأفق التي يعيشها السوريون اليوم في كل مكان، وهم يرون العالم أصبح يعتبرهم عبئاً يسعى للتخلص منه، فضلاً عن تحولات المواقف الرسمية العربية والتركية والغربية إزاء أزمتهم.
في المقابل، يعتري المتابع لما يحبّره كثير من السوريين في منتدياتهم ومجموعاتهم الحوارية، شعور بالدهشة من الجَلَد على الغوص في تحليل العلاقات الدولية، وامتشاق أقلام الخبراء في تشريح مصالح الدول الأخرى وتشابكاتها، ومناقشاتهم حول كيفية إقناع تلك الدول بتغيير فهمها لمصالحها في الملف السوري، فنشرح لها نحن مصالحها في سورية، لعل السوريين يصلون إلى حل لأزمتهم المستفحلة بمساعدة خارجية.
نعيش حالة الضياع والبؤس هذه وقد أطلت علينا ذكرى الجلاء السادسة والسبعون هذا العام، و«سورية» الوطن الذي نعرفه على وشك أن ينتهي، ويبتلعه التاريخ، ليصبح بقعة جغرافية ممزقة، أو مجرد ممر يدوسه الآخرون وهم يعبرون نحو مصالحهم.
لفترة طويلة، اعتاد السوريون «التفكير خارج الصندوق»، وهو تعبير يستخدمه خبراء الإدارة للإشارة إلى التفكير الإبداعي غير المعلّب أو التقليدي، للخروج بحلول مبتكرة. وبالفعل فكثير من السوريين ماهرون في اجتراح الأفكار والمبادرات الكبرى، والتنظير والنقاش حولها عندما يتعلق الأمر بالشأن العام، مع أنهم في حال التنفيذ يفضلون إطلاق مشروعات فردية صغيرة ناجحة، لأنهم مبدعون كأفراد عصاميين في مجالات الحياة المختلفة، وهم أصعب مراساً حين يؤول الأمر إلى التعاون والعمل الجماعي.
لكن أي «صندوق» يفكر السوريون خارجه؟
يُبنى قسط وافر من التفكير السياسي السوري منذ عهد ما قبل الاستقلال في عام 1946 على البحث عن حلفاء خارج حدود الوطن، من أجل تعديل توازنات القوى الداخلية، وما السياسة السورية الداخلية لعقود خلت إلا مرآة تعكس هذا التفكير.
وحينما انطلقت الثورة السورية عام 2011، لجأ النظام أولاً إلى البحث عن حلفاء خارجيين (إيران، ثم روسيا) قبل أن يفكر جدياً في التفاهم مع محتجين سلميين من أبناء شعبه ملؤوا الساحات والميادين مطالبين بإصلاحات في متناول اليد. وسرعان ما اندفع الممسكون بالسلطة إلى التفكير في إطار «نظرية مؤامرة» تفترض مسبقاً أن كل ما جرى في سورية خُطط له في «غرف سرية» في الولايات المتحدة، لإسقاط محور المقاومة والممانعة، وأن نظام الحكم في دمشق استُهدف بسبب مواقفه القومية!
هكذا بكل بساطة! دون النظر في صحّة ما يشتكي منه المواطن المسحوق الذي طالب بالحرية والكرامة، أو الاستماع لما صدحت به حناجر مئات آلاف المواطنين السوريين من أن الشعب السوري واحد، أو شعارهم الأشهر الذي ترك بصمة لا تُمحى في الذاكرة العربية: «يا الله، ما لنا غيرك يا الله».
إلا أن عدوى المطالبة بالدعم الخارجي، ما لبثت أن تسللت إلى سياسيين في المعارضة، وجدوا في تدخل حلف الناتو بليبيا ضد نظام القذافي ضالتهم، وطالبوا بالحصول على دعم عسكري مباشر من الخارج لإسقاط النظام في سورية أيضاً، في وجه الدعم العسكري المباشر الذي يحصل عليه النظام من حلفائه. ولكن الغرب اكتفى بشيء من الدعم العسكري المحدود، الذي ساعد على إضعاف نظام دمشق دون تقويضه.
وحين تراجع الاهتمام الغربي بدعم المعارضة عسكرياً، اتجهت نحو وسائل الضغط والتحشيد في العواصم الغربية، وتحركت بطريقة جماعات الضغط «lobbies» المعروفة في السياسة الأمريكية، والحق أن النظام فعل المثل وإن كان المتحركون باسمه أقل حظاً وأخفض صوتاً. جزء من المعارضة كان مدفوعاً بإلحاح من اقتناعهم بـ«نظرية مؤامرة» تاريخية في سورية تقول إن النظام الحالي لم يبقَ في السلطة إلا بحبل من الدعم الأمريكي/الإسرائيلي الخفي تحت الطاولة، وبالتالي فلا خلاص منه إلا بإقناع الولايات المتحدة، بل وإسرائيل التي ذهب بعض المعارضين إليها سائرين وراء هذا الوهم.
ومن المفارقة أن قناعة معارضين بفرضية استمرار النظام بدعم «خفي» من واشنطن وتل أبيب، تصيب النظام في دمشق بالحبور أكثر مما تثير استياءه، ولا يجد غضاضة في تكريسها بطرق شتى في لاوعي السوريين، من أجل إحباط المنادين بأي تغيير وتيئيسهم من خوض معركة خاسرة سلفاً!
لن أخوض كثيراً في تفاصيل ما جرى خلال 11 عاماً، لأن شواهده ماثلة للعيان في كل سورية اليوم. لكن سلسلة متواليات طلب التدخل الخارجي، بغض النظر عمّن بدأ به، سواء بالاستدعاء المباشر باستخدام السلطة الدستورية كما فعلت حكومة دمشق، أو من خلال طلب الدعم العسكري الذي حصلت عليه فصائل المعارضة بشتى ألوانها بعد حصولها على الاعتراف الدولي من أكثر من 100 دولة اعتبرتها الممثل الوحيد للشعب السوري؛ أوصلتنا إلى حالة، انقسمت فيها سورية الموحدة إلى «سوريات ثلاث أو أربع». فالخارج بتنويعاته المختلفة الداعمة للأطراف السورية المتصارعة، اعتمد بالمجمل -بتنسيق مباشر أو غير مباشر- سياسة دعم تمنع أي طرف من القضاء على الآخرين، ولسان حاله المثل الشعبي: «لا يموت الذيب، ولا يفنى الغنم».
في خضم انشغال العالم بالحرب الأوكرانية منذ شهر شباط/فبراير هذا العام، ظن الفرقاء السوريون من الأطراف المتصارعة على الأرض، أنها الفرصة السانحة لإقناع «حلفاء الخارج» بالحصول على المزيد من الدعم المباشر، كل بدوره يريد القضاء على خصومه ضمن حدود الوطن. بينما أثبت الواقع أن الحرب همّشت المسألة السورية دولياً، ودفعتها أكثر فأكثر إلى هوامش التسويات السياسية بين الفاعلين الدوليين والإقليميين، كورقة للتفاوض لا غير.
كيف نصنع الحل؟
يغيب عن السوريين، مع تمسكهم بأهداب «الخارج»، أنهم في النهاية الذين يجب أن يجلسوا على الطاولة لإنهاء الصراع داخلياً في سورية، سواء اتفق الفاعلون الخارجيون فيما بينهم أم اختلفوا، بعدما انقلبت ثورة السوريين السلمية ذات المطالب العادلة، إلى حرب كالحة دمرت البلاد والعباد، أخرجت إلى السطح ما كان مدفوناً من مشكلات تراكمت بفعل الاستبداد والفساد عبر العقود الماضية. بل إن اتفاق الفاعلين الخارجيين المتدخلين في الملف السوري، لا يمكن أن ينجح دون اتفاق الفاعلين السوريين أنفسهم، فهؤلاء بإمكانهم -على ضعفهم الظاهر- إنجاح أي اتفاق أو إفشاله.
منذ 2015 دعونا القادة السوريين إلى أن لا ينشغلوا بضجيج الصراع خارج بلدهم، بل أن يلتفتوا إلى المصير المشترك الذي يجمعهم، وأن لا مفر أمامهم من أن يمضوا في تطوير «حل وطني» يمكن أن يسير بالتوازي مع «الحل السياسي» المطروح خارجه، واعتبرنا أن غاية الحل الوطني حماية الوطن وشعبه، من خلال «شبكات أمان وطني» تحمي السوريين جميعاً.
ربما أخوض في تفاصيل أكثر عن «الحل الوطني» المنشود في مناسبة لاحقة، ولكني هنا أجدد النداء، في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ سورية، كي يُدرك القادة السوريون من جميع الأطراف خطورة انتظار «غودو الخارج» الذي لن يأتي، وأن صنع الحل والمستقبل لسورية يكون بأيدينا، ويبدأ الآن بأن تقر الأطراف المتصارعة المختلفة، التي تعلن التزامها بحل في إطار القرار الدولي 2254، أن الحل في النهاية يعني بقاء الجميع وتفاهمهم دون إقصاء أو استئصال، وأن الحاجة إلى المحاسبة عن الماضي وإنصاف الضحايا لا تنتفي ولا يملك أحد حق التنازل عنها، ولكن «المحاسبة» و«العدالة» لجميع السوريين لا يمكن أن تبدأ أو تُنجَز ما لم نذهب إلى مرحلة انتقالية، وصولاً إلى حل شامل للأزمة السورية.
على القادة السوريين أن يقتنعوا بحاجتهم للعودة إلى التفكير بالحل في إطاره السوري الجامع، وأن يتخلوا عن أوهامهم بأن استفحال الأزمات الدولية، أو حتى المناورات السياسية للحكومات المختلفة تهدئة أو تصعيداً، في صالح أي منهم، فهي لم تكن كذلك طوال عقد كامل، وأورثتنا كسوريين الدمار والتشريد، والجوع والفاقة.
نقول هذا ونحن ندرك أن القادة الذين قد يقبلون بالعمل من أجل «الحل» الذي نشير إليه في هذه الظروف، إنما يتجرّعون كأساً من السمّ في سبيل وقف الدمار والانهيار وتلاشي هذا الشعب الذي ذاق الأمرّين، فلا أحد هنا يملك التبشير بنتائج وردية أو جنّة موعودة، ولا توجد حلول سحرية أو جذرية.
لقد آن الأوان ليدرك الساسة السوريون أن تراجع الاهتمام الخارجي بإيجاد حل سياسي دولي في سورية قد يفتح الباب أمام فرصة حقيقية للوصول إلى تفاهمات وطنية يمكن البناء عليها، واستنقاذ سورية التي لا يزاود أحد على أحد في حبها، فأحياناً يصبح من الفضيلة العودة للتفكير «داخل الصندوق» بدلاً من تكسيره بحجة التفكير خارجه.
___________________
عبيدة نحاس
* رئيس حركة التجديد الوطني - سورية
مشهدان، بين مشاهد يومية كثيرة، يختصران حالة الذهول والألم وانسداد الأفق التي يعيشها السوريون اليوم في كل مكان، وهم يرون العالم أصبح يعتبرهم عبئاً يسعى للتخلص منه، فضلاً عن تحولات المواقف الرسمية العربية والتركية والغربية إزاء أزمتهم.
في المقابل، يعتري المتابع لما يحبّره كثير من السوريين في منتدياتهم ومجموعاتهم الحوارية، شعور بالدهشة من الجَلَد على الغوص في تحليل العلاقات الدولية، وامتشاق أقلام الخبراء في تشريح مصالح الدول الأخرى وتشابكاتها، ومناقشاتهم حول كيفية إقناع تلك الدول بتغيير فهمها لمصالحها في الملف السوري، فنشرح لها نحن مصالحها في سورية، لعل السوريين يصلون إلى حل لأزمتهم المستفحلة بمساعدة خارجية.
نعيش حالة الضياع والبؤس هذه وقد أطلت علينا ذكرى الجلاء السادسة والسبعون هذا العام، و«سورية» الوطن الذي نعرفه على وشك أن ينتهي، ويبتلعه التاريخ، ليصبح بقعة جغرافية ممزقة، أو مجرد ممر يدوسه الآخرون وهم يعبرون نحو مصالحهم.
لفترة طويلة، اعتاد السوريون «التفكير خارج الصندوق»، وهو تعبير يستخدمه خبراء الإدارة للإشارة إلى التفكير الإبداعي غير المعلّب أو التقليدي، للخروج بحلول مبتكرة. وبالفعل فكثير من السوريين ماهرون في اجتراح الأفكار والمبادرات الكبرى، والتنظير والنقاش حولها عندما يتعلق الأمر بالشأن العام، مع أنهم في حال التنفيذ يفضلون إطلاق مشروعات فردية صغيرة ناجحة، لأنهم مبدعون كأفراد عصاميين في مجالات الحياة المختلفة، وهم أصعب مراساً حين يؤول الأمر إلى التعاون والعمل الجماعي.
لكن أي «صندوق» يفكر السوريون خارجه؟
يُبنى قسط وافر من التفكير السياسي السوري منذ عهد ما قبل الاستقلال في عام 1946 على البحث عن حلفاء خارج حدود الوطن، من أجل تعديل توازنات القوى الداخلية، وما السياسة السورية الداخلية لعقود خلت إلا مرآة تعكس هذا التفكير.
وحينما انطلقت الثورة السورية عام 2011، لجأ النظام أولاً إلى البحث عن حلفاء خارجيين (إيران، ثم روسيا) قبل أن يفكر جدياً في التفاهم مع محتجين سلميين من أبناء شعبه ملؤوا الساحات والميادين مطالبين بإصلاحات في متناول اليد. وسرعان ما اندفع الممسكون بالسلطة إلى التفكير في إطار «نظرية مؤامرة» تفترض مسبقاً أن كل ما جرى في سورية خُطط له في «غرف سرية» في الولايات المتحدة، لإسقاط محور المقاومة والممانعة، وأن نظام الحكم في دمشق استُهدف بسبب مواقفه القومية!
هكذا بكل بساطة! دون النظر في صحّة ما يشتكي منه المواطن المسحوق الذي طالب بالحرية والكرامة، أو الاستماع لما صدحت به حناجر مئات آلاف المواطنين السوريين من أن الشعب السوري واحد، أو شعارهم الأشهر الذي ترك بصمة لا تُمحى في الذاكرة العربية: «يا الله، ما لنا غيرك يا الله».
إلا أن عدوى المطالبة بالدعم الخارجي، ما لبثت أن تسللت إلى سياسيين في المعارضة، وجدوا في تدخل حلف الناتو بليبيا ضد نظام القذافي ضالتهم، وطالبوا بالحصول على دعم عسكري مباشر من الخارج لإسقاط النظام في سورية أيضاً، في وجه الدعم العسكري المباشر الذي يحصل عليه النظام من حلفائه. ولكن الغرب اكتفى بشيء من الدعم العسكري المحدود، الذي ساعد على إضعاف نظام دمشق دون تقويضه.
وحين تراجع الاهتمام الغربي بدعم المعارضة عسكرياً، اتجهت نحو وسائل الضغط والتحشيد في العواصم الغربية، وتحركت بطريقة جماعات الضغط «lobbies» المعروفة في السياسة الأمريكية، والحق أن النظام فعل المثل وإن كان المتحركون باسمه أقل حظاً وأخفض صوتاً. جزء من المعارضة كان مدفوعاً بإلحاح من اقتناعهم بـ«نظرية مؤامرة» تاريخية في سورية تقول إن النظام الحالي لم يبقَ في السلطة إلا بحبل من الدعم الأمريكي/الإسرائيلي الخفي تحت الطاولة، وبالتالي فلا خلاص منه إلا بإقناع الولايات المتحدة، بل وإسرائيل التي ذهب بعض المعارضين إليها سائرين وراء هذا الوهم.
ومن المفارقة أن قناعة معارضين بفرضية استمرار النظام بدعم «خفي» من واشنطن وتل أبيب، تصيب النظام في دمشق بالحبور أكثر مما تثير استياءه، ولا يجد غضاضة في تكريسها بطرق شتى في لاوعي السوريين، من أجل إحباط المنادين بأي تغيير وتيئيسهم من خوض معركة خاسرة سلفاً!
لن أخوض كثيراً في تفاصيل ما جرى خلال 11 عاماً، لأن شواهده ماثلة للعيان في كل سورية اليوم. لكن سلسلة متواليات طلب التدخل الخارجي، بغض النظر عمّن بدأ به، سواء بالاستدعاء المباشر باستخدام السلطة الدستورية كما فعلت حكومة دمشق، أو من خلال طلب الدعم العسكري الذي حصلت عليه فصائل المعارضة بشتى ألوانها بعد حصولها على الاعتراف الدولي من أكثر من 100 دولة اعتبرتها الممثل الوحيد للشعب السوري؛ أوصلتنا إلى حالة، انقسمت فيها سورية الموحدة إلى «سوريات ثلاث أو أربع». فالخارج بتنويعاته المختلفة الداعمة للأطراف السورية المتصارعة، اعتمد بالمجمل -بتنسيق مباشر أو غير مباشر- سياسة دعم تمنع أي طرف من القضاء على الآخرين، ولسان حاله المثل الشعبي: «لا يموت الذيب، ولا يفنى الغنم».
في خضم انشغال العالم بالحرب الأوكرانية منذ شهر شباط/فبراير هذا العام، ظن الفرقاء السوريون من الأطراف المتصارعة على الأرض، أنها الفرصة السانحة لإقناع «حلفاء الخارج» بالحصول على المزيد من الدعم المباشر، كل بدوره يريد القضاء على خصومه ضمن حدود الوطن. بينما أثبت الواقع أن الحرب همّشت المسألة السورية دولياً، ودفعتها أكثر فأكثر إلى هوامش التسويات السياسية بين الفاعلين الدوليين والإقليميين، كورقة للتفاوض لا غير.
كيف نصنع الحل؟
يغيب عن السوريين، مع تمسكهم بأهداب «الخارج»، أنهم في النهاية الذين يجب أن يجلسوا على الطاولة لإنهاء الصراع داخلياً في سورية، سواء اتفق الفاعلون الخارجيون فيما بينهم أم اختلفوا، بعدما انقلبت ثورة السوريين السلمية ذات المطالب العادلة، إلى حرب كالحة دمرت البلاد والعباد، أخرجت إلى السطح ما كان مدفوناً من مشكلات تراكمت بفعل الاستبداد والفساد عبر العقود الماضية. بل إن اتفاق الفاعلين الخارجيين المتدخلين في الملف السوري، لا يمكن أن ينجح دون اتفاق الفاعلين السوريين أنفسهم، فهؤلاء بإمكانهم -على ضعفهم الظاهر- إنجاح أي اتفاق أو إفشاله.
منذ 2015 دعونا القادة السوريين إلى أن لا ينشغلوا بضجيج الصراع خارج بلدهم، بل أن يلتفتوا إلى المصير المشترك الذي يجمعهم، وأن لا مفر أمامهم من أن يمضوا في تطوير «حل وطني» يمكن أن يسير بالتوازي مع «الحل السياسي» المطروح خارجه، واعتبرنا أن غاية الحل الوطني حماية الوطن وشعبه، من خلال «شبكات أمان وطني» تحمي السوريين جميعاً.
ربما أخوض في تفاصيل أكثر عن «الحل الوطني» المنشود في مناسبة لاحقة، ولكني هنا أجدد النداء، في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ سورية، كي يُدرك القادة السوريون من جميع الأطراف خطورة انتظار «غودو الخارج» الذي لن يأتي، وأن صنع الحل والمستقبل لسورية يكون بأيدينا، ويبدأ الآن بأن تقر الأطراف المتصارعة المختلفة، التي تعلن التزامها بحل في إطار القرار الدولي 2254، أن الحل في النهاية يعني بقاء الجميع وتفاهمهم دون إقصاء أو استئصال، وأن الحاجة إلى المحاسبة عن الماضي وإنصاف الضحايا لا تنتفي ولا يملك أحد حق التنازل عنها، ولكن «المحاسبة» و«العدالة» لجميع السوريين لا يمكن أن تبدأ أو تُنجَز ما لم نذهب إلى مرحلة انتقالية، وصولاً إلى حل شامل للأزمة السورية.
على القادة السوريين أن يقتنعوا بحاجتهم للعودة إلى التفكير بالحل في إطاره السوري الجامع، وأن يتخلوا عن أوهامهم بأن استفحال الأزمات الدولية، أو حتى المناورات السياسية للحكومات المختلفة تهدئة أو تصعيداً، في صالح أي منهم، فهي لم تكن كذلك طوال عقد كامل، وأورثتنا كسوريين الدمار والتشريد، والجوع والفاقة.
نقول هذا ونحن ندرك أن القادة الذين قد يقبلون بالعمل من أجل «الحل» الذي نشير إليه في هذه الظروف، إنما يتجرّعون كأساً من السمّ في سبيل وقف الدمار والانهيار وتلاشي هذا الشعب الذي ذاق الأمرّين، فلا أحد هنا يملك التبشير بنتائج وردية أو جنّة موعودة، ولا توجد حلول سحرية أو جذرية.
لقد آن الأوان ليدرك الساسة السوريون أن تراجع الاهتمام الخارجي بإيجاد حل سياسي دولي في سورية قد يفتح الباب أمام فرصة حقيقية للوصول إلى تفاهمات وطنية يمكن البناء عليها، واستنقاذ سورية التي لا يزاود أحد على أحد في حبها، فأحياناً يصبح من الفضيلة العودة للتفكير «داخل الصندوق» بدلاً من تكسيره بحجة التفكير خارجه.
___________________
عبيدة نحاس
* رئيس حركة التجديد الوطني - سورية