بمناسبة وفاة ملكة بريطانيا «إليزابيث»، بعد سبعة عقود، كـ «ملكة رمزية»، تثار الآن بعض النقاشات بخصوص العلاقات العربية - البريطانية، ما لها، وما عليها. وتتنوع الآراء، بالطبع، ما بين مؤيد وممجد، وناقم مستهجن. ومعروف، أنه تمر على العالم في كل مرحلة تاريخية إمبراطوريات (دول عظمى) تفرض نفسها، وتفرض سياساتها وتوجهاتها على المجتمع الدولي، للمدى الذي تسمح به إمكاناتها وقوتها، وتترك بصماتها ولمساتها الدائمة على خارطة العالم، حتى بعد أفولها. وغالباً ما تنهار هذه الإمبراطوريات بعد فترة، تطول أو تقصر. وبريطانيا كانت هي الدولة العظمى الأولى، منذ القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945. وقد استعمرت جزءاً كبيراً من العالم، بما في ذلك معظم العالم العربي، وبسطت سيطرتها عليه لأكثر من قرن من الزمن. بدأت هذه الإمبراطورية تتكون في القرن السادس عشر، ولكنها برزت في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي.
واعتبرت، في ذروتها، أضخم إمبراطورية مساحة في تاريخ العالم حتى الآن. إذ بسطت سلطتها، حتى عام 1913، على حوالى 500 مليون نسمة، يمثلون، آنئذ، حوالى ربع سكان العالم. وسيطرت على مساحة 35000000 كم2، أي ما يعادل 24% من كامل مساحة الكرة الأرضية. ولاتساعها الهائل، وصفت بأنها: «الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس»، كناية عن تمددها في كل قارات العالم. وبالإضافة إلى سيطرتها على مستعمراتها، فإنها هيمنت على اقتصاد العالم، وسيطرت على التجارة الدولية ردحاً من الزمن. ورغم خروجها منتصرة في الحرب العالمية الثانية، إلا أنها أنهكت وضعفت بعد تلك الحرب. وتفاقم ضعفها بعد استقلال مستعمراتها، وخاصة بعد تمكن الهند، «درة التاج البريطاني» - كما كانت توصف - من الاستقلال عام 1947، وصعود أمريكا والاتحاد السوفييتي كدولتين عظميين. واضطرت بريطانيا لمنح الاستقلال لبقية مستعمراتها والانسحاب. واعتبر المراقبون تسليم «هونج كونج» إلى الصين، سنة 1997، النهاية الأخيرة للإمبراطورية البريطانية. ولا تزال هناك 14 منطقة عبر البحار تحت السيطرة البريطانية، وما زالت المملكة المتحدة إحدى الدول الكبرى.
****
وقد كانت العلاقات العربية - البريطانية وما زالت لها الأثر الكبير في الوضع السياسي - الاقتصادي، والواقع الاستراتيجي لأغلب العرب، منذ بداية القرن التاسع عشر، وحتى الآن. ويضاف إلى بريطانيا الدول الكبرى الأخرى التي سادت في هذه الفترة وما بعدها، وفى مقدمتها فرنسا وإيطاليا، ثم أمريكا. هذه الدول ساهمت - بشكل مباشر وغير مباشر - فيما العرب فيه وعليه، وما آل إليه وضعهم الراهن. لذلك، فإن الحديث عن العلاقات العربية - البريطانية، ذو شؤون وشجون، لا تغطيه إلا المجلدات الضخمة. وما يتطرق له هذا المقال هو مجرد إشارة لبعض ملامح وتداعيات هذه العلاقات التاريخية الشائكة.
هل أحسنت بريطانيا تجاه العرب، أم أساءت لهم؟! وهل المحصلة النهائية لهذه العلاقات إيجابية، أم سلبية؟! سؤال كبير، تتطلب الإجابة عنه، بموضوعية وشمول، الكثير من البحث والدراسة والتقصي. لن نحاول هنا، بالطبع، أن نجيب عن هذا التساؤل، وإنما سنلقي فقط بعض الضوء على ما يلاحظ من «مشاعر عربية معادية» لبريطانيا لدى بعض المثقفين والمتعلمين العرب (بسبب سجلها «الاستعماري» ببلادهم)، لوحظت مؤخراً، ورشحت أكثر إثر وفاة الملكة «إليزابيث». وسبق أن سجلت في كثير من المؤتمرات والندوات واللقاءات الفكرية العربية عن حاضر العرب، ومستقبلهم السياسي بخاصة.
****
بالطبع، لا بد أن تقيم الدول علاقات دبلوماسية مع أكبر عدد ممكن من الدول الأخرى، وخاصة الكبرى، وذلك لترابط المصالح فيما بين دول العالم، وضرورة التواصل بشأن المصالح المشتركة. إذ تملي السياسة والدبلوماسية وأصول العلاقات الدولية، وجوب العلاقة والمجاملة، خاصة فيما بين الدول التي ترتبط ببعضها بعلاقات نفعية وثيقة. هذا على المستوى الرسمي. أما على المستوى الشعبي (الأفراد، الجماعات) فالأمر مختلف. هناك أفراد وشخصيات وجماعات لهم آراؤهم المختلفة تجاه سياسات حكومة هذه الدولة، أو تلك، بصرف النظر عن طبيعة العلاقات الرسمية التي تربط دولهم بهذه الدولة أو تلك. وهذا أمر طبيعي، يوجد في كل البلاد وجميع الدول، وإن كان أقل حدة في الدول الديمقراطية. هناك، على سبيل المثال، البريطاني الذي يزدري أمريكا ويرفض سياساتها، رغم ما يربط بلاده بأمريكا من علاقات وطيدة، وتحالف قوي، وثيق. وهناك البيلاروسي الذي يكره سياسات روسيا، رغم قوة العلاقات والروابط الرسمية بين حكومتي البلدين، التي تجسدت مؤخراً في الدعم البيلاروسي القوي للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وهناك الكوري الجنوبي الذي يشجب سياسات حكومة اليابان التي ترتبط الآن بعلاقات حميمة مع حكومة كوريا الجنوبية.
وقس على ذلك وجود مثقفين عرب، أفراداً وجماعات يكرهون سياسات بريطانيا، ولا يقرون أفعالها الماضية والحالية نحو العرب بخاصة، رغم ما يربط بين بريطانيا وأغلب دولهم العربية حالياً من روابط رسمية قوية. نعم، لا يوجد في السياسة حب، أو كراهية... توجد «مصالح» معينة لكل طرف. وهناك مثل شعبي عربي يقول: «أحبك يا نافعي... وأكرهك يا مضري». وهذه الفئة الرفيعة من العرب تعتقد جازمة أن بريطانيا، أو المملكة المتحدة، كانت - وما زالت - أكبر القوى الدولية المعاصرة التي أضرت بـ «المصالح» القومية العربية الحقيقية، في المدى الطويل. وهذا «الأذى» فاق - في رأيهم - ضرر القوى الدولية السابقة واللاحقة..!
ونكمل هذا الحديث في الأسبوع المقبل، إن شاء الله.
واعتبرت، في ذروتها، أضخم إمبراطورية مساحة في تاريخ العالم حتى الآن. إذ بسطت سلطتها، حتى عام 1913، على حوالى 500 مليون نسمة، يمثلون، آنئذ، حوالى ربع سكان العالم. وسيطرت على مساحة 35000000 كم2، أي ما يعادل 24% من كامل مساحة الكرة الأرضية. ولاتساعها الهائل، وصفت بأنها: «الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس»، كناية عن تمددها في كل قارات العالم. وبالإضافة إلى سيطرتها على مستعمراتها، فإنها هيمنت على اقتصاد العالم، وسيطرت على التجارة الدولية ردحاً من الزمن. ورغم خروجها منتصرة في الحرب العالمية الثانية، إلا أنها أنهكت وضعفت بعد تلك الحرب. وتفاقم ضعفها بعد استقلال مستعمراتها، وخاصة بعد تمكن الهند، «درة التاج البريطاني» - كما كانت توصف - من الاستقلال عام 1947، وصعود أمريكا والاتحاد السوفييتي كدولتين عظميين. واضطرت بريطانيا لمنح الاستقلال لبقية مستعمراتها والانسحاب. واعتبر المراقبون تسليم «هونج كونج» إلى الصين، سنة 1997، النهاية الأخيرة للإمبراطورية البريطانية. ولا تزال هناك 14 منطقة عبر البحار تحت السيطرة البريطانية، وما زالت المملكة المتحدة إحدى الدول الكبرى.
****
وقد كانت العلاقات العربية - البريطانية وما زالت لها الأثر الكبير في الوضع السياسي - الاقتصادي، والواقع الاستراتيجي لأغلب العرب، منذ بداية القرن التاسع عشر، وحتى الآن. ويضاف إلى بريطانيا الدول الكبرى الأخرى التي سادت في هذه الفترة وما بعدها، وفى مقدمتها فرنسا وإيطاليا، ثم أمريكا. هذه الدول ساهمت - بشكل مباشر وغير مباشر - فيما العرب فيه وعليه، وما آل إليه وضعهم الراهن. لذلك، فإن الحديث عن العلاقات العربية - البريطانية، ذو شؤون وشجون، لا تغطيه إلا المجلدات الضخمة. وما يتطرق له هذا المقال هو مجرد إشارة لبعض ملامح وتداعيات هذه العلاقات التاريخية الشائكة.
هل أحسنت بريطانيا تجاه العرب، أم أساءت لهم؟! وهل المحصلة النهائية لهذه العلاقات إيجابية، أم سلبية؟! سؤال كبير، تتطلب الإجابة عنه، بموضوعية وشمول، الكثير من البحث والدراسة والتقصي. لن نحاول هنا، بالطبع، أن نجيب عن هذا التساؤل، وإنما سنلقي فقط بعض الضوء على ما يلاحظ من «مشاعر عربية معادية» لبريطانيا لدى بعض المثقفين والمتعلمين العرب (بسبب سجلها «الاستعماري» ببلادهم)، لوحظت مؤخراً، ورشحت أكثر إثر وفاة الملكة «إليزابيث». وسبق أن سجلت في كثير من المؤتمرات والندوات واللقاءات الفكرية العربية عن حاضر العرب، ومستقبلهم السياسي بخاصة.
****
بالطبع، لا بد أن تقيم الدول علاقات دبلوماسية مع أكبر عدد ممكن من الدول الأخرى، وخاصة الكبرى، وذلك لترابط المصالح فيما بين دول العالم، وضرورة التواصل بشأن المصالح المشتركة. إذ تملي السياسة والدبلوماسية وأصول العلاقات الدولية، وجوب العلاقة والمجاملة، خاصة فيما بين الدول التي ترتبط ببعضها بعلاقات نفعية وثيقة. هذا على المستوى الرسمي. أما على المستوى الشعبي (الأفراد، الجماعات) فالأمر مختلف. هناك أفراد وشخصيات وجماعات لهم آراؤهم المختلفة تجاه سياسات حكومة هذه الدولة، أو تلك، بصرف النظر عن طبيعة العلاقات الرسمية التي تربط دولهم بهذه الدولة أو تلك. وهذا أمر طبيعي، يوجد في كل البلاد وجميع الدول، وإن كان أقل حدة في الدول الديمقراطية. هناك، على سبيل المثال، البريطاني الذي يزدري أمريكا ويرفض سياساتها، رغم ما يربط بلاده بأمريكا من علاقات وطيدة، وتحالف قوي، وثيق. وهناك البيلاروسي الذي يكره سياسات روسيا، رغم قوة العلاقات والروابط الرسمية بين حكومتي البلدين، التي تجسدت مؤخراً في الدعم البيلاروسي القوي للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وهناك الكوري الجنوبي الذي يشجب سياسات حكومة اليابان التي ترتبط الآن بعلاقات حميمة مع حكومة كوريا الجنوبية.
وقس على ذلك وجود مثقفين عرب، أفراداً وجماعات يكرهون سياسات بريطانيا، ولا يقرون أفعالها الماضية والحالية نحو العرب بخاصة، رغم ما يربط بين بريطانيا وأغلب دولهم العربية حالياً من روابط رسمية قوية. نعم، لا يوجد في السياسة حب، أو كراهية... توجد «مصالح» معينة لكل طرف. وهناك مثل شعبي عربي يقول: «أحبك يا نافعي... وأكرهك يا مضري». وهذه الفئة الرفيعة من العرب تعتقد جازمة أن بريطانيا، أو المملكة المتحدة، كانت - وما زالت - أكبر القوى الدولية المعاصرة التي أضرت بـ «المصالح» القومية العربية الحقيقية، في المدى الطويل. وهذا «الأذى» فاق - في رأيهم - ضرر القوى الدولية السابقة واللاحقة..!
ونكمل هذا الحديث في الأسبوع المقبل، إن شاء الله.