-A +A
نجيب يماني
يكتسب الرد الحازم والقاطع والقوي الذي وجهه وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان، لمراسل «رويترز» في المؤتمر الصحفي عقب اجتماع «أوبك+» الأسبوع الفارط بالعاصمة النمساوية، أبعادًا كثيرة للوكالة ومراسلها، لتصبح «رسائل» مبطنة في بريد كثيرين يعنيهم الأمر، وتشملهم الرسالة.

وأول هذه الرسائل يمكن أن تقرأ في تثبيت موقف المملكة المبدئي من تمليك الحقائق للرأي العام العالمي، دون محاولة «التغبيش»، وتمرير الرسائل المفخخة بتجهيل المصادر، ونسبة الكلام إلى مصادر غير رسمية، لأجندات خاصة، في محاولة الإيهام بمواقف غير حقيقية، أو تفسير مواقف المملكة حسب القراءات والتصورات الخاصة لأي جهة توعز للصحافة لغاية أو غرض دون الحقيقة الجلية، وتوجيه مسار العمل الصحفي لاحترام المصادر، والاعتماد على الرسمي منها، توخيًا للدقة، ونشدانًا للحقيقة المحضة لا أكثر، لذلك جاء رد سموه قويًا وحاسمًا في وجه مراسل «رويترز» بقوله: «لن أتلقى أي سؤال منك، تحدثت إلى زميلتكم مدة 25 دقيقة في دبي من باب الاحترام لمؤسستكم، لكنكم لم تحترموا حديثي وذهبتم لمصدر وهمي، وهذا لا يعجبني».


ثم أردف قائلاً بذات اللهجة القاطعة الحاسمة: «لقد أخطأتم مرتين، وستخطؤون في المرة الثالثة، رويترز لم تقم بعمل جيد.. تحدثتم أن روسيا تقوم بهذا وذاك، وفي الحقيقة اليوم الذي نشرت فيه قصتكم لم يتحدث أي أحد من روسيا معي وأنا لم أتحدث مع أي أحد من روسيا».

وأضاف أن «الوكالة خرجت بقصة عن روسيا والسعودية وأنهما تتفقان حول سعر 100 دولار(لبرميل النفط)، وهذا غير صحيح».

ليخلص من ذلك إلى الموقف الحاسم قائلاً: «لن أتحدث إلى رويترز حتى تحترم المصدر ردًا قويًا من وزير الطاقة في مملكة الحزم والعزم».

إن في طوايا هذ الرد تكمن الرسالة الثانية والموجهة لبريد من يرون في موقف المملكة المنسجم مع توجهات «أوبك+» بتخفيض الإنتاج بمقدار مليوني برميل يوميًّا ابتداء من شهر نوفمبر المقبل، تضاربًا مع مصالحهم، بما حمل بعضهم إلى استدعاء نظرية المؤامرة في سبيل تفسير موقف المملكة، و«أوبك+» وربطه بتحقيق المصالح الروسية، بالنظر إلى صراع الطاقة الذي يدور حاليًا مترافقًا مع الصراع العسكري في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، وكأنما على المملكة العربية السعودية ومجموعة «أوبك+» أن تسدد فاتورة الحرب الدائرة بغض النظر عن مصالحها الاقتصادية، وأن تراعي مصالح الغرب قبل كل شيء، وقبل مصالح دولها؛

إنه عين ما جاء يبحث عنه رئيس وزراء بريطانيا المستقيل بوريس جونسون، وتبعه الرئيس الأمريكي جو بايدن، تسوقهم «القناعة المطلقة» بأن يصدروا الأوامر والتعليمات وعلى الآخرين التنفيذ بما يحقق مصالحهم، وينسجم مع أجنداتهم ومواقفهم السياسية والاقتصادية، غير مدركين لجوهر التغيير الكبير الذي حدث في واقع المملكة في ظل قيادة سلمان الحزم والعزم وولي عهده الأمين محمد الخير، وحرص المملكة على إقامة علاقات متزنة، ومحكومة بالندية، ومستوفية لشروط الاستفادة المشتركة، بعيدًا عن الإملاءات وفرض الشروط، وتحديد المسارات للآخرين.

هذه هي الرسالة المضمرة في رد سمو وزير الطاقة، أن لا تصبح التقارير الصحفية، بخاصة من وكالة ذات صيت ومكانة مثل «رويترز»، معملاً لإطلاق بالونات الاختبار، لقياس رد فعل المملكة تجاه المواقف والقراءات الخاطئة لمواقفها، فإن موقف المملكة ثابت ومعلن وواضح، بتقدير مصالحها أولاً، والنأي عن سياسة المحاور والكتل في التعاطي مع الأحداث العالمية، إلا بمقدار ما يحقق مصالحها، وينسجم مع مواقفها الإنسانية..

ثالث الرسائل التي انطوى عليها هذا الرد الصارم من سمو وزير الطاقة، موجة أيضًا تلقاء من أبدوا أسفهم أو«خيبة أملهم» من موفق المملكة و«أوبك+» بالتخفيض المنتظر، إذ يتوجّب عليهم أن يقرأوا المواقف الاقتصادية للمملكة تحديدًا من خلال مستشرفات رؤيتها؛ رؤية 2030، وأن يفهموا جيدًا أنها رؤية صيغت بعناية لتنفّذ بدقة، وأن من مقتضيات هذه الرؤية أن تخرج المملكة من ضيق الصور النمطية، اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، إلى آفاق أخرى أكثر رحابة، وأبعد شأوًا، فإن قصرت أبصارهم عن رؤية هذه الحقيقة، وعميت بصائرهم عن إدارك هذا المتغيّر المهم، فستظل تقديراتهم لمواقف المملكة غير المنسجمة مع تطلعاتهم رهنًا لمخرجات نظرية «المؤامرة»، وسوء التقدير المفضي إلى مثل هذه المواقف غير الإيجابية إجمالاً..

أشعر بالفخر والاعتزاز والزهو، حيال موقف سمو وزير الطاقة من مراسل «رويترز»، فهو قمين بأن يلزم كل متطاول حده، ويضع كل متجاوز حيث يجب أن يكون في مساحة التأديب والرد المفحم، فمن أراد الحقيقة فعليه أن يطلبه من الباب الواسع، والمصدر المسؤول، ومن أراد دونها وسلك مسلك «رويترز» فلن يجد إلا قارعة الرد القاصم، والزجر المؤدّب. وهذا ما عايشته عن قرب ولمسته عن تجربة أثناء عملي في وزارة البترول والثروة المعدنية شخصية ذكية محبة للخير قوية في الحق.