-A +A
محمد الساعد
شكّلت مبادرة الغاز التي طرحت العام 2001 جواً مثالياً للنقاش العلمي والوطني في السعودية، دارت الحوارات بين وجهتي نظر تشكّلت بين أكثر من طرف، كان ملخصها أيهما أكثر فائدة لمستقبل السعودية الاقتصادي، قبول عروض الشركات الدولية، أم الاستمرار في المفاوضات لتعظيم الفائدة الوطنية من تلك المبادرة غير المسبوقة.

لم يكن نقاشاً سلساً، بل كان مريراً وصعباً، لكنه صحي ومبني في أسسه على البحث عن المصلحة العليا للوطن، إضافة إلى أن بعض من وقفوا على إحدى ضفتي المناقشات كانت لديهم قناعات راسخة بعدم فتح الباب مرة أخرى أمام الشركات الأجنبية بعد أكثر من ستين عاماً على اكتشاف النفط، وبعد عقدين من توطين الصناعة النفطية لتصبح خالصة تحت شركة أرامكو السعودية، بينما الطرف الآخر كان يرى أن الظروف الدولية والاقتصاد المحلي -حينها- كان يحتّم الانضمام إلى قطار الاستثمار الدولي، وتقديم بعض التنازلات التي سيتم تعويضها مستقبلاً.


كانت التفاصيل الفنية معقدة جداً وزادت الأمر صعوبة، وكان دور وزارة البترول وشركة أرامكو إعداد الدراسات وتقديم التوصيات، وكذلك الدفاع عن وجهة نظرهم أمام المسؤول الذي كان من حقه الاستماع إلى كل التحفظات والبحث عن الحقيقة ودعم أكثر وجهات النظر إقناعاً له.

الأسئلة المهمة التي كانت لدى شركة أرامكو هي: هل ستدخل الشركات الجديدة في مناطق امتيازها وهي مناطق واسعة تشمل مساحات جغرافية في بلد أقرب للقارة، وكيف سيتم التفاعل والتعامل معها، وهل أرامكو قادرة لوحدها للتنقيب في تلك المساحات الواسعة، كذلك هل سيكون ذلك بشكل دائم أم مؤقت، سؤال آخر أكثر أهمية ماذا لو أن المُكتشف كان بترولاً وليس غازاً، هل ستكلف أرامكو باستكمال إنتاجه أم لا؟

تظهر أرقام نشرتها مجلة «MEED» في تلك الفترة 2003م، أن المملكة تمتلك رابع أكبر احتياطي غاز مؤكد في العالم بعد روسيا وإيران وقطر، ووفقاً لما أوردته المجلة نقلاً عن شركة أرامكو، كان لدى المملكة في نوفمبر 2002 حوالى 224 تريليون قدم مكعب من احتياطيات الغاز المؤكدة، حوالى 136 تريليون قدم مكعب في شكل غاز مصاحب، وتمت مضاعفة احتياطيات الغاز غير المصاحب إلى 88 تريليون قدم مكعب من خلال التنقيب في العقد الماضي وهناك آمال في أن يرتفع هذا الرقم أكثر، وقال نائب رئيس أرامكو -الأسبق- خالد الفالح في مؤتمر بالرياض في أكتوبر تشرين الأول 2003: «هناك مناطق واعدة كبيرة بالسعودية لم يتم استكشافها بشكل كافٍ بحثاً عن الغاز غير المصاحب».

مع ذلك فإن الآراء لم تقتصر على بعض مسؤولي البترول في تلك الفترة؛ بل شملت وزارة المالية، آراءٌ تحفظت على منح التحالفات الدولية عوائد «تقبلها الشركات»، إضافة إلى توسيع برنامج مبادرة الغاز ليشمل تحلية المياه المالحة وإنتاج الطاقة الكهربائية، وهو أمرٌ رفضته الشركات أو النقل تحفظت عليه، قائلة: نحن متخصصون في استخراج وإنتاج الغاز فقط ونبرع في ذلك، لكننا لا نفقه في إنتاج المياه والكهرباء، ولا نستطيع تقنين مخاطرها.

لقد تحفظت المالية السعودية على السماح للشركات الأجنبية باستغلال الامتياز للحصول على أرباح ريعية غير معقولة، ووجدت أن من واجبها الدفاع عن وجهة نظرها، فضلاً عن مطالبتها بفرض رسوم وضرائب أخرى على الشركات الأجنبية التي رفضت بطبيعة الحال تلك الرسوم والضرائب العالية، لأن ذلك يعني للشركات أن عوائد الاستثمار على رأس المال غير مجدٍ وبالتالي انسحبت.

في المكاتب الخلفية للوزارات السعودية المعنية بالمبادرة، كانت هناك نقاشات حامية أخرى، هل الغاز المستخرج سيخصص للاستهلاك المحلي المتزايد أم سيكون للتصدير، فالشركات الأجنبية كانت تدفع نحو التصدير لأن مكاسبه ستكون ضخمة، بينما بعض من السعوديين كانوا يفضلون توجيه إنتاجه للداخل لتعظيم صناعة البتروكيماويات والمياه والطاقة الكهربائية، على أن يتم التفكير في التصدير لاحقاً متى ما كان ذلك ممكناً.

وفي دراسة أعدها معهد أكسفورد لدراسات الطاقة، (Oxford Institute for Energy Studies)، أكدت على أن الغرض من مبادرة الغاز كانت الحث على تطوير موارد الغاز لتزويد محطات الكهرباء والمياه الجديدة بالطاقة، إضافة إلى مصانع البتروكيماويات وصهر المعادن، وما شابه ذلك. لقد كانت الأهداف التنموية هي المحفز وراء طرح المبادرة وخصوصاً مع الطلبات المتزايدة -في السعودية- لخدمات المياه والطاقة الكهربائية، وما سينتج عن ذلك من خلق فرص للعمل.

كما كان من أهداف مبادرة اللجوء إلى المستثمرين الأجانب الذين سيجلبون الأموال إلى المملكة، هو إعطاء الحكومة مرونة في استخدام الأموال -الحكومية- المخصصة لمشاريع الطاقة في استخدامات تنموية بديلة، ولذلك يصبح من الضروري اللجوء إلى المستثمرين الأجانب في الحالات التي تكون فيها تكلفة رأس المال بالنسبة للبلد المضيف مرتفعة للغاية.

يضيف معهد أكسفورد في شهادته على علو كعب الخبرات السعودية في إنتاج البترول: المملكة العربية السعودية هي دولة رئيسية منتجة ومصدرة للنفط، ولديها احتياطيات غاز كبيرة معظمها من النوع المصاحب لإنتاج البترول، وشركة أرامكو كيان كبير للغاية ومختص ينتج حوالى 8 ملايين برميل في اليوم من النفط والغاز الطبيعي والمنتجات المكررة (في حينه). وتحتفظ «أرامكو» بقدرة فائضة تبلغ حوالى 3 ملايين برميل في اليوم، وقد نفذت مشاريع استثمارية كبيرة وفي وقت وجيز، إذ يعد حقل الشيبة النفطي مثالاً مثيراً للإعجاب الذي نفذ في وقت قياسي وظروف استثنائية، وهو ينتج أغلى أنواع النفط.

هناك آراء أخرى تقول إن السبب الرئيسي للتحفظ على عروض شركات البترول الكبرى «الأمريكية والأوروبية» كان بسبب احتمال اكتشاف البترول (وليس الغاز) في المناطق التي تنقب فيها الشركات عن الغاز، وبالتالي هل سيتم السماح للشركات الأجنبية تطوير وإنتاج الحقول النفطية أم لا، بينما أصرت الأصوات المتحفظة على أن الغرض من طرح المبادرة هو استكشاف وتطوير وإنتاج الغاز فقط، ولذلك لن يسمح لهذه الشركات بالشراكة في أي حقول نفطية جديدة مكتشفة، وبدلاً عن ذلك فقد عُرض مبلغ مقطوع (Lump Sum) على الشركات يعتمد على تقييم الحقل النفطي المكتشف بعد انتهائها من الدراسات الأولية لحجم وكمية البترول المكتشف.

في فترة لاحقة وبعد تعثر الاتفاق مع الشركات الدولية الكبرى، أنيطت مشاريع الاستكشاف والتنقيب عن حقول غاز جديدة لشركة أرامكو، على أن تقوم الشركة بتمويل هذه المشاريع بنفسها عن طريق الاقتراض الخارجي، ومنذ ذلك الحين تم اكتشاف بعض الحقول في البحر الأحمر وشمال غرب السعودية، لكن إنتاج هذه الحقول لا يزال في بداياته.